الأحد، 31 مايو 2020

نقد كتاب أحاديث منتقاة في غرائب ألفاظ رسول الله(ص)

نقد كتاب أحاديث منتقاة في غرائب ألفاظ رسول الله(ص) مما يحتاج إلى استعماله
مؤلف للكتاب أبو الفتح محمد بن الحسين بن أحمد بن عبد الله بن بريدة الموصلي الأزدي (المتوفى: 374هـ)
الكتاب أو المخطوط يحتوى على عدة وريقات بها عدة روايات هى :
1 - أخبرنا الشيخ الإمام الأصيل فخر الدين أبو الثناء محمود بن الشيخ الأمين أبي القاسم عبد اللطيف بن محمد بن سيما أثابه الله , أنبا الشيخ الإمام قاضي القضاة شرف الدين أبو سعد عبد الله بن محمد بن هبة الله بن أبي عصرون , قراءة عليه , وأنا أسمع يوم الاثنين ثامن عشر من شهر رمضان سنة ثلاث وسبعين وخمس مائة , بقراءة الشيخ أبي جعفر القرطبي , ثنا الشيخ أبو الحسن علي بن أحمد بن عبد الباقي بن الحسن بن محمد بن عبيد الله بن طوق التغلبي , قراءة عليه , أنبا الفقيه أبو الحسن أحمد بن أبي الفتح بن عبد الله بن فرغان , أنبا محمد بن الحسين بن أحمد الأزدي , ثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي , ثنا يحيى بن عبد الحميد بن عبد الرحمن الحماني , ثنا مندل بن علي , عن ابن جريج واسمه عبد الملك بن عبد العزيز , عن عمرو بن دينار , عن عبد الله بن عباس , قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أهديت إليه هدية وعنده قوم فهم شركاؤه فيها»
الخطأ أن من أهدى له شىء وعنده ضيوف فهم شركاء فى الهدية والهدية هى لمن اهديت إليه فإن شاء أعطى الجلساء إن كان شىء مما يقسم كالطعام أو الشراب وإن لم يشاء لم يوزع شىء كما ان بعض الهدايا لا يمكن قسمتها فمثلا من أهدى له جلباب لا يمكن ان يفسده بتقطيعه واعطاء كل واحد قطعة ومن أهدى له قلم مثلا لا يمكن أن يكسره ويفرقه عليهم ومن أهدى له مثلا جهاز كهربائى كغسالة أو ثلاجة أو شاشة فإنه لا يمكن أن يقسم على الحاضرين لأن تقسيمه يفسده
2 - حدثنا محمد بن الحسين , ثنا أبو محمد القاسم بن عبد الرحمن القاضي , ثنا سهل بن سقير الخلاطي , ثنا عبد العزيز بن محمد , ثنا محمد بن أبي حميد , عن إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص , عن أبيه , عن جده سعد بن أبي وقاص , قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من سعادة ابن آدم ثلاث، ومن شقوة ابن آدم ثلاث، فمن سعادته: المرأة الصالحة , والمسكن الصالح , والمركب الهني، ومن شقوة ابن آدم: المرأة السوء , والمسكن السوء , والمركب السوء "
الخطأ وصف المسكن بالحسن والسوء والمركب بالحسن والسوء فهذه الصفات هى صفات المكلفين من الجن والإنس فالمسكن سمى مسكنا لأنه حسن أى مكان سكن أى راحة والمركب وهو الحمار أو البغل أو الحصان أو السفينة من خلقة التى أحسنها كما قال تعالى " الذى أحسن كل شىء خلقه"
3 - حدثنا محمد بن الحسين , ثنا محمد بن بشران , ثنا صالح بن العلاء بن الوضاح , ثنا عمرو بن زياد الثوباني , ثنا عبد الله بن المبارك الخراساني , ثنا عبد الله بن عون , عن محمد بن سيرين , عن أبي هريرة , قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كسب مالا حراما , إن أمسكه لم يبارك له فيه , وإن تصدق به لم يقبل منه، وإن مات وعنده منه شيء كان زاده إلى النار»
المستفاد المال الحرام يجب إعادته لأصحابه والتوبة من ذنب أخذه
4 - حدثنا محمد بن الحسين , ثنا محمد بن جرير الطبري , ثنا عبد الرحمن بن الأسود , ثنا محمد بن كثير , عن شريك بن عبد الله , عن إبراهيم بن المهاجر , عن مجاهد , عن ابن عباس , قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من زنا نزع الإيمان من قلبه , فإن شاء أن يرده عليه رده , وإن شاء أن يمسكه أمسكه»
المستفاد من زنا كفر
الزانى إن تاب عاد للإسلام وإن لم يتب ظل على كفره
5 - حدثنا محمد بن الحسين , ثنا أحمد بن الحسين بن عبد الصمد , ثنا محمد بن زيد الطرسوسي , ثنا مؤمل بن إسماعيل , ثنا حماد بن سلمة , عن سهيل بن أبي صالح , حدثني أخي , عن أبي هريرة , قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أكثر ذكر الله فقد برئ من النفاق»
6 - حدثنا محمد بن الحسين , ثنا إسحاق بن محمد بن مروان الغزال , ثنا أبي محمد بن مروان , ثنا خالد بن عيسى أبو يزيد العجلي , عن سفيان الثوري , عن هشام بن عروة , عن أبيه , عن عائشة رضي الله عنها , قالت: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أساء بأخيه الظن , فإنما أساء بربه؛ لأن الله يقول: {اجتنبوا كثيرا من الظن} [الحجرات: 12] "
الخطأ أن من أساء بأخيه الظن فإنما أساء بربه وهو ما يخالف أن بعض الظن وليس كل الظن إثم كما قال تعالى "إن بعض الظن أثم" ومن ثم فليس كل ظت إساءة للرب أى مخالفة لله فالظن ببراهين مباح
7 - حدثنا محمد بن الحسين , ثنا أحمد بن الهيثم بن حريدة الحلبي , ثنا عبيد بن هشام الحلبي , ثنا عثمان بن عبد الرحمن الطرائفي , ثنا عنبسة بن عبد الرحمن , عن محمد بن سليمان , عن علي بن الحسين , عن أبيه الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام , قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من اعتكف عشرا في رمضان عدل بحجتين وعمرتين»
الخطأ أن من اعتكف عشرا في رمضان عدل بحجتين وعمرتين وهو ما يخالف قواعد الأجر فى القرآن وهى عشر حسنات للعمل غير المالى كالاعتكاف لقوله تعالى بسورة الأنعام "من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها " و700 أو 1400 حسنة للعمل المالى كالحج والعمرة مصداق لقوله تعالى "مثل الذين ينفقون أموالهم فى سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل فى كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء " ومن ثم لا يمكن أن يستوى الأجران
8 - حدثنا محمد بن الحسين , ثنا محمد بن عبده بن حرب القاضي , ثنا النضر بن طاهر , ثنا سويد أبو حاتم , عن قتادة , عن الحسن , عن أبي هريرة , قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بروا آباءكم تبركم أبناؤكم، وعفوا تعف نساؤكم، ومن أتاه أخوه معتذرا فليقبل عذره محقا كان أو مبطلا، فمن لم يفعل ذلك لم يرد علي الحوض يوم القيامة» .
كذا قال: عن سويد بن إبراهيم بن أبي حاتم , عن قتادة , عن الحسن.
وحدثنا محمد بن الحسين , ثنا أحمد بن الحسين الجرادي , ثنا إسحاق بن إبراهيم الصواف , ثنا عمر بن الخطاب السجستاني , ثنا سويد أبو حاتم , عن الحسن , عن أبي هريرة , عن النبي صلى الله عليه وسلم , مثله.لم يذكر قتادة"
والخطأ الأول وجود حوض واحد للنبى (ص) ويخالف هذا أن كل مسلم له حوضان أى عينان وفى هذا قال تعالى "ولمن خاف مقام ربه جنتان فبأى آلاء ربكما تكذبان ذواتا أفنان فبأى آلاء ربكما تكذبان فيهما عينان تجريان "والخطأ الثانى هو أن عفافنا عن نساء الناس يجعل نساؤنا تعف عن الناس وأن بر أباءنا يجعل أبناءنا يبروا وهذا تخريف لأن من يريد الخطأ لا يمنعه فعل غيره من الأقارب الحسن من الأعمال كما أن العبد الصالح(ص) قتل الغلام لأنه لم يكن يبر أبويه وكان سيحملهم على الكفر مع أنهما مؤمنين بر كل منهما والديه وفى هذا قال تعالى "وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا "
9 - حدثنا محمد بن الحسين , ثنا أحمد بن محمد الزعفراني , ثنا عثمان بن صالح 26 /, ثنا عمرو بن جرير , عن محمد بن عمرو , عن أبي سلمة بن عبد الرحمن , عن أبي هريرة , قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من بث يعني شكا فليصبر , قال الله سبحانه: {إنما أشكو بثي وحزني إلى الله} [يوسف: 86] "
المستفاد الشاكى بلواه لله عليه الصبر وهو طاعة الله فى الشدة
10 - حدثنا محمد بن الحسين , ثنا أبو يعلى أحمد بن علي , ثنا الجراح بن مخلد القزاز , ثنا عمر بن يونس , ثنا عيسى بن عون , ثنا عبد الملك بن زرارة , عن أنس بن مالك , قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما أنعم الله على عبد نعمة في أهل ولا مال ولا ولد , فقال: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، فترى فيه آفة دون الموت ".
وكان يتأول هذه الآية {ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله} [الكهف: 39] "
الخطأ أن من قال عند النعمة ما شاء الله لا قوة إلا بالله، لا ترى فيه آفة دون الموت وهو ما يخالف أن الله أصاب المسلمين رغم أعمالهم الصالحة ومنهم ذلك القول بالجوع والخوف ونقص من الأموال والثمرات فقال :
"ولنبلونكم بشىء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات"

السبت، 30 مايو 2020

نقد كتاب الإعجاز الخبري

نقد كتاب الإعجاز الخبري
المقال الذى تحول لكتاب فى المكتبة الإباضية مؤلفه أحمد بن حمد الخليلي وهو مفتيهم الحالى والعنوان الإعجاز الخبرى هو مخالف لمعنى الآيات وهى المعجزات فى قوله تعالى "وما منعنا ان نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وأتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا"
فالمعجزات هى معجزات مرئية أى أشياء ملموسة أو تتحول إلى أشياء ملموسة فى نفس العهد والمعجزات الكلامية نادرة وهى معجزة يوسف (ص) فى تفسير الأحلام فقد كان يفسر الأحلام وبعد مدة فى حياة السامعين للتفسير يتحول التفسير إلى حقيقة معاشة وفى هذا قال تعالى " ولنعلمه من تأويل الأحاديث"
وأما الإعجاز الخبرى للوحى سواء قرآنى أو ما قبله ليس إعجازا فيما بعد انتهاء القرآن أو الوحى فالناس لا يرون أى لا يلمسون أى لا يرون تحقق مثلا أخبار القيامة فى حياتهم كما ان الناس لا يرون صحة أخبار الماضين بأعينهم لكونهم ماتوا وأصبح من المحال إحياءهم وسؤالهم عما حدث كما قال تعالى " "وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون"
النوع الوحيد الذى كان من الممكن التأكد منه هو ما يحدث فى عهد النبى(ص) كهزيمة الروم وفتح مكة ومعرفة السارق الذى رمى غيره بسرقته وقد انتهى هذا النوع
إننا نطلق كلمة المعجزة على القرآن مجازيا ومعجزته هى صدقه أى عدله الذى لا ريب فيه عند المسلم
استهل الخليلى المقال بتقسيم الأخبار الغيبية لثلاثة أنواع فقال :
"إن القرآن الكريم حافل بالأخبار الغيبية وتنقسم إلى ثلاثة أقسام : خبر عما مضى ، وخبر عن حاضر ، وخبر عن مستقبل ، أما خبر الماضي فهو الإخبار عن النبيين وما كان يلقاه المرسلون من عنت قومهم ، والأمم الماضية وأحداثها المتنوعة مع أن هذه الأخبار لم تكن معروفة في المحيط الأمي الذي نشأ وعاش فيه رسول الله (ص)وهو (ص)لم يكن على اتصال بأهل الكتاب اتصالا يمكنه من معرفة ما في الكتاب من أخبار الأمم وتواريخها وأحداث النبيين مع قومهم ، ولم يكن النبي (ص)يتلو قبل القرآن من كتاب ولا يخطه بيمينه ، وقومه كانوا بعيدي العهد بالنبوات وأخبارها ، وأهل الكتاب المنبثون في جزيرة العرب كانوا أشبه بالأميين في الوصف ، إذ جلهم كانوا معدودين في عوام أهل الكتاب ، وقليل منهم كان يعنى بقراءة الكتاب كما أوضح ذلك ابن خلدون في (العبر) ، ومع هذا كله فقد جاء القرآن المنزل على رسول الله (ص)بأخبار النبيين والأمم التي لا مجال لتكذيبها ولا مكان لتقيدها لوضوحها وضوح الشمس في رابعة النهار ، فضلا عما جاء فيه من بيان كثير مما يخفيه أهل الكتاب وتفنيد كثير من مزاعمهم وضلالاتهم وتبيين أحوال أحبارهم الذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هو من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا "
وقد دلل الرجل على أن البعض من أخبار الماضين لم تكن معروفة لمن يعيشون فى عهد النبى(ص) فقال :
"وفي القرآن نفسه ما يدل دلالة قاطعة على أن هذه الأخطار لم تكن معلومة في المحيط الذي نشأ فيه (ص)ففي سورة آل عمران نجد بعد قصة مريم ما يثبت أنها من الغيبيات التي لم تكن معلومة لقوم الرسول (ص)حيث قال تعالى (ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون) (آل عمران/44) وفي سورة هود عليه السلام بعد ذكر قصة نوح يأتي قول الله سبحانه (تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين)(سورة هود/49) مع العلم أن سورة هود من السور المكية ، فلو كانت هذه الأنباء أو بعضها مما تعمله قريش لبادرت إلى تكذيب الرسول (ص)ورد ما جاء به بإثبات أنها على علم بهذه الأخبار أو ببعضها ، وفي سورة يوسف ما يؤكد قصة يوسف عليه السلام مع إخوته لم تكن معلومة لدى قريش ، وذلك قول الحق تعالى (ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون) (سورة يوسف/102) ونحو ذلك ما جاء في سورة القصص بعد ذكر قصة موسى عليه السلام مع فرعون لعنه الله ومع بني إسرائيل "
وكلامه عن كون قريش لم تكذب النبى(ص) فى تلك الأخبار وهم فقد كذبوه فى كل ما كان يتعلق بالوحدانية فمثلا القصص فى سورة الأعراف كلها لها محتوى واحد وهو أن رسالة كل رسول طاعة أى عبادة أى اتقاء الله وحده وهو ما كذبه الكفار كما قال تعالى فى سورة ص "وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشىء عجاب وانطلق الملأ منهم أن آمنوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشىء يراد ما سمعنا بهذا فى الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق أأنزل عليه الذكر من بيننا بل هم فى شك من ذكرى بل لم يذوقوا عذاب"
وبين الخليلى أن الكفار اتهموا النبى(ص) بتعلم الأخبار من غيره من الناس وهو العجمى فقال :
"فهل يبقى مع ذلك شك أن الرسول (ص)موحى إليه بهذه الأخبار لما أدخله أحبارهم ورهبانهم من التحريف والتبديل في الكتاب وقد حاول المشركون أن يجدوا ما يتشبثون به في تكذيب الرسول (ص)زاعمين تارة أن النبي (ص)يهذي بهذه الأخبار التي في القرآن من قبل نفسه ، وتارة أنه يستند إلى من يلقنه إياها ، والله تعالى يرد عليهم هذه الدعوى بقوله (ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين) (النحل/103) فأنى للأعجمي أن يستطيع صياغة هذه القصص والأخبار والمواعظ والأمثال إلى ما وراء ذلك مما في القرآن هذا الصوغ العجيب الذي تلاشت بين يديه بلاغة بلغاء العرب مع أن الرجل الأعجمي الذي زعموا أن الرسول (ص)يستمد منه القرآن لم يكن يعرف من اللغة العربية إلا ما يدور من حديث المجاملات فحسب وقد اختلف المفسرون في اسمه ووصفه ، ومنهم من قال اسمه (يعيش) ، ومنهم من قال اسمه (جبر) ومنهم من قال اسمه (بالعام) وقيل كان أعجميا بياعا بمكة وقيل كان قينا روميا وهذا الاختلاف لا يضير الاتفاق أنه لم يكن يحسن العربية كما يدل على ذلك القرآن نفسه"
وبالقطع هم لا يتهمونه بتلقى الأخبار من الأعجمى وحدها وإنما بتلقى كل الوحى لقوله تعالى " وهذا لسان عربي مبين" فالوحى كله عربى كما قال تعالى "وكذلك أنزلناه حكما عربيا"
ثم بين الخليلى ان كفار عهد النبى(ص) يشبههم كفار عصرنا من الملاحدة ومن سماهم المستشرقين فقال :
"وإذا كان أولئك المكذبون يتشبثون بهذه الدعوى الواهية في تلك العصور فإن ملاحدة اليوم يعيدونها في صورة أخرى ، فنجد في مقررات الروس الشيوعيين زعما بأن مسيلمة الكذاب –لعنه الله- كان من أساتذة الرسول (عليه السلام) وأن كثيرا من سور القرآن من وضع مسيلمة وإنما استأثر رسول الله (ص)بهذا الأمر دونه وزعموا أن القرآن الكريم تضافرت عليه جهود كثير من الناس لفوا بالكرة الأرضية وأحاطوا بما فيها من العجائب واستظهروا ما أمكنهم من الأخبار وكانت حصيلة ما جمعوه هي مصدر ما في هذا القرآن من عجائب يتعذر على الفرد أن يحيط بها وهذا كله إنما وهذا كله إنما هو ناجم عن مكابرة الحقيقة التي لا يمكن إنكارها وإلا فكيف يمكن لأبناء جزيرة العرب -في الوقت الذي تتعذر فيه وسائل النقل التي تمكن من الدوران بالكرة الأرضية- أن يحيطوا علما بأخبار الأرض وعجائبها مع أنهم قليلا ما كانوا يخرجون من جزيرتهم ولم يكونوا على علم بما يدور في العالم من حولهم
وأحفظ أنني قرأت لمستشرق نصراني دعوى أن رسول الله (ص)لم يكن على علم بأخبار النبيين كإبراهيم وموسى وعيسى قبل هجرته إلى المدينة المنورة وإنما بدأ يقتبس بعد الهجرة أخبارهم من أهل الكتاب في المدينة وقد فات هذا المستشرق أن أكثر سور القرآن خبرا عن النبيين هي السور المكية لا المدنية كسورة يونس وهود وإبراهيم والإسراء والأنبياء والقصص وغيرها "
وهو كلام صحيح فكل ما قاله الكفار من أقوال فى القرآن فى عهد النبى (ص) يقوله من بعدهم كما قاله الذين من قبلهم فى الوحى الإلهى للرسل(ص) الأخرين كما قص الله علينا فى العديد من المواضع مثل قوله تعالى : "كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون"
وقال "وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم قد بينا الآيات لقوم يوقنون"
ثم تحدث الرجل عن أخبار الحاضر فى عهد النبى(ص) فقال :
"وأما خبر الحاضر فهو الإخبار عن الشؤون المعاصرة للرسول (ص)مما لا يمكن لبشر أن يجزم فيه بشيء كقوله تعالى (غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون) (الروم/3،2) فقد كان نزول هذه الآيات في حال ما اشتد الصدام بين الإمبراطوريتين الكبيرتين آنذاك الإمبراطورية الرومانية التي كان على رأسها قيصر ، وانحدرت جموع بني الأصفر أمام الزحف الساساني وسر العرب المشركون لكون الروم يشاركون المسلمين الإيمان بكتاب عقيدة سماوية بينما الفرس كانوا مجوسا يشاركون مشركي العرب في الوثنية وساء المسلمين هذا الانتصار الوثني على قوم من أهل الكتاب فأنزل الله تعالى هذه الآيات تحمل بشرى إلى المؤمنين بأن المنتصرين لا يلبثون أن ينحدروا وأن الروم المغلوبين سوف يظهرون على عدوهم في بضع سنين ولم يكن ذلك يدور بخلد أحد من الناس فمن الذي يستطيع أن يجزم بأن المغلوب سيصبح غالبا وأن الغالب سينقلب مغلوبا ؟ وقد كانت ثقة المؤمنين بالوحي ثقة لا تعادلها ثقة وهذا الذي دفع أبا بكر الصديق إلى مراهنة المشركين على ما وعد الله به وذلك قبل حرمة الرهان في الإسلام فقد راهنهم على أربع قلائص لمدة سبع سنين فمضت السبع ولم ينتصر الروم على الفرس فشق ذلك على المسلمين فأمره رسول الله (ص)أن يزايدهم في الرهان وأن يستزيدهم سنتين فلم تمض السنتان حتى جاءت الأخبار بانتصار الروم على مجوس فارس وثبت ما وعد الله به المؤمنين من هذا الانتصار الذي يفرحون به فلو أن هذا الوعد كان ناتجا عن تفكير إنسان يعتمد على مقاييس الناس في تجاربهم لكان ذلك معدودا من الأوهام التي لا يعتمد عليها عاقل ، فإن الحرب وإن كانت سجالا ينتصر فيها المغلوب ويهزم فيها الغالب فقد يكون الانتصار في بعض المواقف لعدو على عدوه مفتاحا لنصر طويل حتى يتمكن الغالب من القضاء على المغلوب وقد حدث ذلك كثيرا في تاريخ الحروب القديمة والحديثة فلا يمكن الجزم بظهور المغلوب على الغالب ، وخصوصا مع تحديد الزمن ببضع سنين إلا بوحي ممن يعلم السر وأخفى ، وتصديق الواقع للخبر في الزمن المحدد دليل جازم على أن هذا القرآن جاء بالخبر من عند الله تعالى فإن ذلك من معالم إعجازه البارزة "
وما قاله الرجل صحيح والأخطاء فى الفقرة هى :
الأول تصديق أن هزيمة الروم كانت على يد الفرس وهو ما لا يوجد عليه دليل فى السورة وإنما هو هزيمة الروم على يد المسلمين لقوله تعالى "ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله"
فالفرحون هم المسامون والناصر هو الله والله لا ينصر الكفار كما قال تعالى "إن ينصركم الله فلا غالب لكم"
الثانى تحليل الحرام وهو المراهنة المزعومة بين أبى بكر وأحد الكفار والحرام لا يحلل مهما كانت الظروف ثم كيف يأمن مسلم كافر محارب فى قوله والله يقول " لا يرقبون فى مؤمن إلا ولا ذمة"
ثم تحدث الخليلى عن أخبار المستقبل فى القرآن فقال:
"أما خبر المستقبل فهو في القرآن كثير جدا ونكتفي بالإشارة إلى بعض المواضع راجين من الله سبحانه أن يمن علينا بالتوفيق للإطالة في شرح هذا الإعجاز عندما نصل إلى هذه المواضيع في التفسير فمن ذلك ما في سورة الفتح من بشائر متعددة وأخبار متنوعة وكان نزول السورة على الرسول (ص)في جو عابس مكفهر بعد ما كان المسلمون يكاد يستحكم في نفوسهم اليأس ويستولي على قلوبهم الشعور بالهزيمة وذلك أن الرسول (ص)أري في منامه أنه داخل مع أصحابه المسجد الحرام وهم محلقون رؤوسهم ومقصرون بعد تأدية الشعائر –ورؤيا النبيين حق- لأن الشيطان لا يتمثل لهم ، فاستنفر الرسول (ص)المؤمنين ليذهبوا معه محرمين إلى البيت العتيق الذي تحدوهم إليه لواعج الشوق بعد طول عهدهم به لحيلولة المشركين بينهم وبينه وكان ذلك في العام السادس الهجري فاستبشر مرضى القلوب من أهل المدينة بهذه المبادرة من المسلمين التي كانوا يتصورونها مغامرة جنونية ستؤدي بهم إلى الفناء ، وكانت ألسنتهم تجري بما تفيض به قلوبهم المريضة من ظنون ، فتردد أن قريشا قد غزت النبي (ص) في عقر داره ورزأته في كثير من أصحابه فكيف وهو يذهب بأصحابه إلى دارهم فهل ترضى الأنفة القريشية والحمية العربية التي تتأجج نارها في صدورهم أن يمر بهم خصومهم ويطأوا ترابهم من غير أن يبيدوهم عن بكرة أبيهم؟ هذه الخواصر كانت تعتمل في نفوس المنافقين في المدينة ويتحدثون بها فيما بينهم هذا ولم يكد رسول الله (ص)والمؤمنون يستنشقون عبير البيت الحرام ويشمون العرف الذكي من التربة الحرمية المقدسة حتى وقف بين أيديهم المشركون سدا منيعا يحولون بينهم وبين ما يطمحون إليه ، وبركت ناقته (ص)مكانها بالحديبية ولم تتقدم خطوة إلى الأمام وأخبر النبي (ص) على أي خطة تسألها منه قريش فتمت بينه وبينهم المعاهدة المعروفة بصلح الحديبية وكان ظاهر هذا الصلح استعلاء المشركين على المسلمين إذ كان من بنوده ، إن كان هارب من جانب المسلمين إلى المشركين فللمشركين أن يلجئوه وإن كانت هذه مصيبة نزلت كالصاعقة على رؤوس المسلمين وقد كبر عليهم الأمر حتى أن الرسول (ص)كان يأمرهم ثلاث مرات أن ينحروا الهدي ويحلوا إحرامهم بالحلق أو التقصير فتلكأوا في امتثال أمره مع ما عرفوا به من المبادرة إلى طاعته (ص)فدخل مهموما على زوجه (أم سلمة) فأشارت إليه أن يخرج ولا يكلم أحدا وينحر هديه ويدعوا حالقه فيحلق له ، ففعل النبي (ص)ما أشارت به عليه ، فتبادر أصحابه إلى بدنهم ينحرونها ثم أحلوا إحرامهم بالحلق والتقصير وكاد بعضهم يقتل بعضا من الغم ، وفي هذا الجو العابس نزلت هذه السورة على رسول الله (ص)تحمل بشائر المستقبل الباسل وحسبك بفاتحتها (إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما وينصرك الله نصرا عزيزا) (الفتح/3،2،1)
وكان الصحابة في منتهى التشاؤم فجاء أحدهم إلى النبي (ص)وقال له : (إي وربي فتح وأي فتح) ولقد صدق الله ما وعد به رسوله (ص)إذ لم يمض شهران من صلح الحديبية حتى فتح الله عليه خيبر وغنم المسلمون غنائم كثيرة وقضوا على الخطر اليهودي الذي يهددهم في قلب جزيرة العرب وأخذ الناس يدخلون في دين الله فوجا بعد فوج ، ولم يمض عامان من تاريخ هذا الصلح حتى دخل في الإسلام أضعاف عدد المسلمين من قبل ويدل على ذلك أن النبي (ص)خرج في عمرة الحديبية بألف وأربعمائة ودخل (ص)مكة بعد سنتين ومعه عشرة آلاف مقاتل وقد أخذت الدعوة الإسلامية بعد هذا الصلح تتدفق في أنحاء الجزيرة كالسيل الآتي وقد تخطت حدود الجزيرة حتى قرعت مسامع كسرى وقيصر عندما أوفد النبي (ص)وفوده حاملين كتبه إلى كثير من ملوك الأرض من بينهم الإمبراطوران الكبيران كسرى وقيصر وقد أقلقت هذه الدعوة قلب قيصر حتى شعر بعرشه يتزلزل من تحته ، وبالأرض تميد به وبسلطانه وقال قولته المشهورة أمام أبي سفيان بعد أن سأله عن صفات النبي (ص)وأحوال دعوته : (إن كنت صادقا فيما تقول ليملكن موضع قدمي هاتين ولو كنت أعلم أنني أخلص إليه لتجشمت إليه حتى أغسل عن قدميه) أما جزيرة العرب فقد ملأت سمعها هذه الدعوة وبلغت أقصى مكان منها وهو عمان ببعدها عن مكة المكرمة وقد أسلم أهلها عن بكرة أبيهم عندما وصلهم عمرو بن العاص رسول النبي (ص)فكان هذا كله هو الفتح الذي وعد الله به رسوله الأمين وقد أنجزه الله له في أقل من سنتين من نزول السورة وفي نفس هذه السورة كثير من الأخبار عن المغيبات منها ما أخبره الله به عما سيقوله المخلفون في قوله (سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم قل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أو أراد بكم نفعا بل كان الله بما تعملون خبيرا) (الفتح/11) وهؤلاء هم أسلم وغفار وغيرهم من الأعراب حول المدينة وكانوا قد تلكأوا في الخروج مع الرسول (ص)والمؤمنين لما يتوقعونه من عدم انفلاتهم من قبضة قريش إذا وطئوا تراب مكة وقد أخبر الله رسوله (ص)عما كان يدور في أدمغتهم من ظنون في قوله كما أخبره –سبحانه- عما سيطمع فيه المخلفون من اللحاق بالمؤمنين لإحراز المغانم التي تفيئ إليهم بعد ذلك وما يجب أن يجابوا به حيث قال (سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذالكم قال الله من قبل فسيقولون بل تحسدوننا بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا) (الفتح/15) وهذه المغيبات التي لا يدركها إلا الله سبحانه وفي نفس السورة إنذار المخلفين بأنهم سيدعون إلى قوم ولبأس شديد يقاتلونهم أو يسلمون وذلك مما وقع في عهد أبي بكر في حروب الردة مع بني حنيفة وغيرهم ، وفي سائر الحروب التي تلاحقت بعد ذلك حتى ظهر دين الله في الأرض ومن ضمن ما في السورة من مغيبات هذه البشارة التي يحملها إلى النبي (ص)وإلى المؤمنين قول الحق تبارك وتعالى (لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا) (الفتح/27) ، ولم يمض عام واحد حتى أقرالله عيون المؤمنين بدخولهم المسجد الحرام محرمين بعمرة القضاء وهم آمنون مطمئنون محلقون رؤوسهم ومقصرون بعد ما أحلوا الإحرام وقد اشترك في هذه العمرة جميع المؤمنين الذين صدوا عن المسجد الحرام في عمرة الحديبية وفي السورة نفسها وعد من الله للمؤمنين بغنائم متتابعة وقد تحقق ذلك وكانت غنائم خيبر في مقدمتها ، كما وعد الله فيها رسوله (ص)بظهور دينه على كل دين في قوله (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا) (الفتح/28) وقد أنجز الله هذا الوعد فعلت كلمة الله في الأرض وأشرق نور دينه الحق فمزق ظلمات الأديان الباطلة "
والأخطاء فى الفقرة هى :
الأول تفسير الفتح القريب بكونه فتح خيبر وعمان وهو كلام يخالف كون الفتح فتح مكة فمعنى فجعل من دون ذلك فتحا قريبا هو فجعل من بعد دخول الكعبة فتح مكة ولا يوجد ذكر لعمان ولا لخيبر فى القرآن
الثانى كون حروب الردة فى عهد أبى بكر ذكرت فى سورة الفتح وهو تخريف لا ريب فيه لأن من دخل برضاه فى الإسلام كما قال تعالى "ورأيت الناس يدخلون فى دين الله أفواجا" لا يمكن أن يرتد ولا توجد حروب ردة وقعت فإنما هى اختراع من الكفار فى كتب التاريخ والغريب هو أن الخليلى فى الفقرة التالية استشهد على تمكين المسلمين وحكمهم الأرض بحكم الله بآية تنقض ما قاله وهو قوله"وبجانب هذه الأخبار الغيبية في السورة وعود وبشائر أخرى في سائر القرآن ، منها ما في قول الحق تعالى (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون) (النور/55) والآية نزلت بشارة للمؤمنين في ظرف حرج ووقت عصيب إذ كانت جزيرة العرب ترميهم بأفلاذ كبدها والدولة الإسلامية وليدة مهددة بالقضاء عليها في مهدها ولكن هذا الوعد وأمثاله مما كان ينزل به القرآن ينزل في قلوب المؤمنين السكينة ويبعث فيها الطمأنينة ويستثير العزائم ويوقظ الهمم وكما أن المسلمين كانوا بمكة المكرمة مهددين من قبل رؤوس الكفر في نفوسهم ظلوا كذلك في المدينة المنورة مهددين في دولتهم الفتية ونظامهم الناشئ وكانوا لا يكادون يضعون أسلحتهم خشية أن تستباح بيضتهم ، وتداس كرامتهم لا سيما والعرب تتناوشهم وقريش تؤلب عليهم "
ويذكر الخليلى حكاية ويرتب عليها نتيجة فيقول:
"ويذكر أنه في هذا الظرف القاسي جاء رجل إلى النبي (ص)يسأله متى يؤمنون فيضعون أسلحتهم ؟ فبشره النبي (ص)بأنه سيعيش حتى يرى الملأ الكثير من الناس ليست بينهم حديدة ، ونزلت الآية تصديقا لما بشر به النبي (ص)والآية مسبوقة بآيات مبشرات نزلت بمكة المكرمة ، منها قول الحق سبحانه (إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد) (غافر/51) والمؤمنون لثقتهم بوعد الله كانوا لا يخفون هذه البشائر عن أعدائهم المشركين ، وقد اتخذ منها المشركون مادة للسخرية والاستخفاف والهزء بالمؤمنين ، فإذا رأوهم مقبلين قالوا : جاءكم ملوك الأرض الذين سيغلبون غدا ملك كسرى وقيصر ، والنبي (ص)كان يبشر بهذا الوعد حتى في أحرج المواقف التي تضيق منها الصدور ، ويضطرب فيها البال فعندما خرج (ص)مهاجرا من مكة ومعه الصديق وكان المشركون يكادون يأخذون عليهما جميع المسالك بالرصد والتتبع ، إذ كانوا يعدون من يأتيهم به حيا أو ميتا بمائة قلوص ، كان رسول الله (ص)في هذه اللحظات الحاسمة ينظر إلى وعد الله القاطع بالنصر والتمكين وظهور هذا الدين على كل دين ، حتى كأنه من ثقته بهذا الوعد ينظر إلى الموعود به أمام ناظريه ، وعندما لحق به سراقة وصده الله تعالى عنه وطلب منه كتاب الأمان قال النبي (ص)(كيف بك إذا لبست سوار كسرى ؟) إن كل لبيب ليدرك بأدنى تأمل أن هذا المنطق ليس منطقا بشريا عاديا وإنما هو منطق النبوة الخالدة والرسالة الصادقة ، فالبشر العادي في مثل هذه الساعات الحرجة تضيق به الأرض بما رحبت ، وتتبخر آماله ، وتتصدع عزائمه ، وتتلاشى هممه ، كيف وهو (ص) تلفظه أرضه التي هي مسقط رأسه ومنبت أبائه ، ومسرح خيالاته ، ويخرج منها مع أحد أصحابه يقطعان رحلة الصحراء تزيد عن أربعمائة وخمسين كيلو مترا ، ويكاد يكون على كل تلعة أو هضبة رصد من المشركين ، فضلا عن الأفواج التي خرجت من ورائهما آملة اللحاق بهما ، فكيف يداعب خياله (ص)في هذه الحالة أمل أن تفتح لأصحابه ممالك كسرى ، حتى يلبس رجل عادي لا يزال في ذلك الوقت على ملة الجاهلية سواري كسرى ؟ وإنما ذلك تعبير منه (ص)عن وعد الله الذي لا تبديل لكلماته ولا اختلاف لميعاده ولقد أنجز الله تعالى هذا الوعد
فانطلق المسلمون في أرجاء الأرض حاملين معهم لواء دعوة الحق ، وأطاحوا بالإمبراطورية الأولى في العالم آنذاك ، كما قضوا على السلطة القيصرية في أكثر مستعمراتها ، وكادوا يأتون عليها في كل مكان ، وأذاقوا الشعوب المقهورة المحرومة التي كانت تئن تحت وطأة الظلمة وسياط العسف والجور نعمة العدل والحرية والكرامة وعندما جاء الخليفة الراشد عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- بخزائن كسرى وتاجه وسواريه دعا بسراقة وألبسه السوارين تحقيقا لما وعد به الرسول (ص) ، فمن الذي يصدق أن هذه الشراذم القليلة سوف تواجه في آن واحد أكبر دولتين في ذلك الوقت مثلهما كمثل روسيا وأميركا في عالم اليوم وتتغلب عليهما لولا أن الأمر أمر إلهي والوعد وعد رباني ؟ ولو قال قائل إن الرسول (ص)كان يستدل بقرائن الأحوال لما يقوله شأن الأذكياء النابهين فإن ذلك يرده أن موازين العقل ومقاييس التجارب تقضي باستحالة أو شبه استحالة تحقق تلك الوعود ، كيف لهذه الأعداد القليلة من المؤمنين أن تواجه الدول الكبرى من غير أن تسند ظهرها إلى دولة ذات قوة كقوتها ؟ فمن يصدق في عصرنا هذا أن جزيرة العرب مع ما يفيض فيها من الثراء ويتفجر منها من الطاقة تستطيع أن تتحرش بإحدى الدولتين الكبريين في هذا العصر بغزوها في عقر دارها اعتمادا على قوتها فضلا عن التحرش بهما معا ؟ مع أن أصحاب الرسول (ص)الذين رفعوا لواء الجهاد لم يجمعوا قواهم لغزو دولة واحدة فحسب حتى يتغلبوا عليها ثم ينقلبوا إلى غيرها ، بل انقسموا لتواجه طائفة منهم هذه القوة وتواجه الطائفة الأخرى القوة الأخرى والعرب وإن عرفوا بالبأس وقوة المراس فإن ذلك لا يعني قدرتهم من قبل أنفسهم لمواجهة القوى العالمية لا سيما أن العرب لم تكن حروبهم حروبا منظمة وإنما كانت حروبا قبلية ضيقة ، والروم والفرس قد مارسوا الحروب وخبروها لمدة ثلاثة قرون واعتادت جيوشهم الانضباط العسكري وأبدى كل جيش من هذين الجيشين الكبيرين في المعارك التي دامت بينهما هذه المدة من مهارة الحرب وفنون القتال ما لم تكن قبائل العرب على خبرة به فأنى للجيش العربي أن يسحق جموع بني ساسان وبني الأصفر وهو يتكون من القبائل المتفرقة التي دأبت على التنافر والتناحر وعرفت بالأنفة والإباء بحيث ترفض كل قبيلة إمرة القبيلة الأخرى ؟! "
وما قاله الخليلى من حكايات عن سوارى كسرى ووضع السلاح هو من ضروب الوهم المبنى على تصديق روايات صنعها الكفار ليضلونا عن كلام الله فالنبى(ص) لم يكن يعرف الغيب كالاستيلاء على سوارى كسرى كما قال تعالى على لسانه " ولا أعلم الغيب " وقال " ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسنى السوء"
وحكاية سراقة وغوص أرجل فرسه حكاية لم تقع لا هى ولا قول السوارين لأن الله نصره فى رحلة الهجرة بآيات أى جنود غير مرئية وسراقة وأخوه طبقا للحكاية رأوا الآيات وهو ما يناقض قوله تعالى" إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثانى اثنين إذ هما فى الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها"
واما حكاية وضع السلاح فهى أمر لايقوله النبى(ص) أو مسلم فسلاح المسلم دوما مستعد كما قال تعالى " وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة " فالكفار المحاربون موجودون فى كل عصر ولا يمكن أن يكون هناك أمان فى حالة وضع السلاح ولذا قال تعالى " خذوا حذركم "

الجمعة، 29 مايو 2020

نقد رباعيات أى كفريات الخيام

نقد رباعيات أى كفريات الخيام
مؤلف الرباعيات غياث الدين أبو الفتح عمر بن إبراهيم الخيام (المتوفى: 515ه) والمفروض أن يكون الكافر بالدين أبو الخمر عمر المخمور وقد ترجمها نظما عن اللغة الفارسية الشاعر أحمد الصافي النجفي
بداية أى ترجمة للشعر من لغة إلى لغة أخرى لابد أن تفقده بعضا من المعانى التى قصدها الشاعر فى لغته الأصلية وقد نجح الصافى النجفى فى ترجمته فلم يشعرنا أن ما قاله الخيام ليس شعرا كما فى ترجمات أخرى لأشعار تمت ترجمتها نثرا ففقدت جمال الشعر
الرباعيات تذكرنا بشعراء الخمور فى التراث وحتى فى الحداثة فكثير من معانى الخيام سبق وأن قالها أبو محجن الثقفى وأبو نواس وغيرهم وأخذ إيليا أبو ماضى منها معانى كثيرة خاصة قصيدة الطلاسم أو لست أدرى
الخيام أى المخمور أى الخمورجى تقوم رباعياته على الأسس التالية كمعانى :
-الخمر هى لذته وراحته
-لا بعث ولا حياة بعد الموت ولا جنة ولا نار
-كل الناس جهلة فى دنياهم
- الله إن كان موجودا سيغفر للخيام وأمثاله
- ان كل ذرة فى الوجود دخلت فى مخلوقات كثيرة فهى مرة جزء من إنسان أو جزء من شمس او جزء من كأس خمر ...
الرباعيات عبارة عن قصائد أو قل قصيدة واحدة كل مجموعة منها تنتهى بحرف من حروف الهجاء على حسب الترتيب التعليمى
وسوف نتناول المعانى التى صاغها المخمور الكافر فى تلك الرباعيات وهى :
-الخمر هى لذته وراحته:
النصوص واضحة ولا تحتاج لتعليق ولكننى سوف أشير إلى بعض الأمور مثل الأبيات :
"وإذا مت فاجعلوا الراح غسلي ... ومن الكرم فاصنعوا تابوتي
أو مر مخمور على قبري انتشا ... منها وأفقده النهى تأثيرها
وإذا لم أكن بأهل سقاني ... فوق قدري بعادة الإكرام غسلوني
بالراح بعد المنون ... واذكروها والكأس في تلقيني"
إن مت فاكتموا رفاتي واجعلوا ... اخر أمري عظة بين الملا
وبالطلا امزجوا ثراي واصنعوا ... من طينه غطاء راقود الطلا

هذه الأبيات تذكرنا بقول أبى محجن الثقفى:
إذا مت فادفنى إلى جنب كرمة تروى عظامى بعد موتى عروقها
ولا تدفننى بالفلاة فإننى أخاف إذا ما مت ألا أذوقها "
وأما قوله :
كيف أرجو من بعد برءا لدائي ... وطبيبي أضحى يعاني السقاما
فهو يذكرنا بقول أبى فراس:
دع عنك لومى فإن اللوم إغراء وداونى بالتى كانت هى الداء"
والرجل يسخر من نصح المسلمين ويقول :
يقول المتقون غدا ستحيى ... على ما كنت في هذي الحياة
إلى الحان أغدو كل يوم مبكرا ... وأصحب فيه ثم أهل الخلاعات
كن كالشقائق ممسكا كأسا لدى الن ... يروز مع وردية الوجنات"
وهو يصاحب الكفار المجوس فى الخمر فيقول:
نعم أنا من راح المجوس بنشوة ... وصب خليع لم أزل مدمن الراح
يرى كل حزب في رأيا ومذهبا ... وإني لنفسي كيفما كنت يا صاح
وهو يفترى على الله فيزعم أن مليك أى ملاك النهار يدعوهم لشرب الخمر فيقول:
دعى للصبوح مليك النهار ... ولاح سنا الفجر فوق السطوح
ونادى منادي الألى بكروا ... ألا فاشربوا ان وقت الصبوح
ألفجر لاح فقم لنا يا صاح ... واملأ زجاجك من عقيق الراح
وعاقر الراح ونل أقصى المنى ... فالعمر ما أقصره كما اتضح
إشرب الراح فهي روح الروح ... بلسم النفس والحشا المجروح
وإذا ما دهاك طوفان هم ... فانج فيها فذي سفينة نوح
فقم واحسها فالشهر كم بعد سلخه ... إلى غرة يمضي ومنها إلى سلخ
لثمت من جرة الصهباء مرشفها ... حرصا لأسأل منها عيشة الأبد
فقابلت شفتي باللثم قائلة ... سرا ألا اشرب فإما رحت لم تعد
أترع كئوسك فالصباح قد انجلى ... راحا لها يغدو العقيق حسودا
وهلم بالعودين واكتمل الهنا ... وقع على عود وأحرق عودا
إرتشفها فذا لعمري الخلود ... فيه تمتاز للشباب عهود
لا تعن فيما لم يرد وما مضى ... واشرب لئلا يذهب العمر سدى"
وهو لا يهمه صوم رمضان فهو يشرب الخمر فى أى وقت كما قال :
"قد قيل لي رمضان جاء فسوف لا ... تسطيع رشفا لابنة العنقود
فسأحتسي بختام شعبان الطلا ... علا لتصرعني ليوم العيد
خذ بالسرور فكم بفكرك فكروا ... بالأمس دون بلوغ أدنى مقصد
وانعم فإنهم بأمس قرروا ... لك دون أن تدعوهم أمر الغد
يا من تولد من سبع وأربعة ... وراح منها يعاني سعي مجتهد"
وهو لا يرى الحياة بدون شرب الخمر فهى لذته فى الدنيا فى أقواله:
لا عيش لي بسوى صافي المدام ولا ... أطيق حملا بدون الراح للجسد
ما أطيب السكر والساقي يناولني ... كأسا وتعجز عن أخذ الكؤوس يدي
ألا اشرب فعمر سوف يعقبه الردى ... حقيق بأن تقضيه بالنوم والسكر
مذ ازدهرت بالبدر والزهرة السما ... إلى الان لم يوجد ألذ من الخمر
فيا عجبي من بائع الراح هل يرى ... أعز من الصهباء إن باعها يشري
واجرع بدورك صابرا كأس الردى ... فالكل سوف يذوقها في دوره
لأرتشف المدامة أي وقت ... وإن يك أشرف الأوقات قدرا"
وهو يسخر من الله والمؤمنين طالبا ألا يحول الله العنب خمرا بقوله:
"ملأت الدن من عنب حلال ... فقل لله لا يجعله خمرا
أيا فلكا يجري ببؤسي خلني ... فلست حريا أن تسومني الأسرا
مررت بمعمل الخزاف يوما ... وكان يجد في العمل الخطير
ويصنع للجرار عرى ثراها ... يد الشحاذ أو رأس الأمير
عاطني الراح فهي قوت لنفسي ... واسقنيها وإن تزد في خماري
فعلى ذكرها أدر لي كأسا ... إن نقدا من ألف دين لأجدر
متى اقتلعت كف المنية دوحتي ... وعدت لدى أقدامها أتعفر
لم يبق مني في الدنيا سوى رمق وليس في اليد من صحبي سوى الكدر
لم يبق لي من طلا أمس سوى قدح ... ولست أعلم ما الباقي من العمر
دخلت في الحان نشوانا وكان به ... شيخ على متنه كوز وقد سكرا
الراح أطيب لي من ملك طوس ومن سرير كسرى وتخت الملك قابوس"
وهو يرى أن السحر خير من التقوى فيقول:
وإنما أنة السكير في سحر ... خير من الزهد والتقوى بتدليس"
كما أنه سيبيع سجادة الصلاة ليشترى خمرا وهو سيشربها حتى فى المسجد الأقصى فى قوله:
"ودعنا نبع بالكأس سجادة التقى ... ونكسر فوق الصخر قارورة القدس
لا تؤذ خلق الله أو تغتبهم ... وأنا الضمين غدا فهات الكاسا
يا خمر ما أحلاك وسط زجاجة ... تالله أنت عقال عقل الحاسي
لا تمهلين من احتساك هنيهة ... حتى تبيني كنهه للناس لو تسقي الطود لاعتراه الرقص ... من ينتقص الراح ففيه النقص
حتى م تقول لي عن الراح فتب ... هذي روح بها يربى الشخص
قم نصطبحها خمرة وردية ... في رنة العود وصوت المعزف"
وهو يشربها يوم العيد فى قوله:
أصح فأيام التراويح انقضت ... واليوم عيد فلنسر للقرقف
إن من لازموا المحاريب ليلا ... والألى عاقروا كؤوس الرحيق
غرق الكل ما بهم قط ناج ... وغفوا كلهم فما من مفيق"
وهو يطلب ان تتحول كلل المحرمات لخمر يشربها فيقول:
يا ليت كل حرام مسكر لأرى ... في الكون كل فتى من ذنبه ثملا
عش وابنة الكرم في هناء ... واشرب ودع باطل الخيال
فالبنت مهما تكن حراما ... أطيب من أمها الحلال
خيام طب إن نلت نشوة قرقف ... وحباك وردي الخدود وصالا
إذا نلت رطلي قرقف فاحس جامها ... بكل اجتماع راق أو محفل حالي"
ويبدو ان القوم نتيجة فجره بالشرب ضيقوا عليه ولذا فهو يطلب شربها فى الخفاء قائلا:
إن تشرب الراح فاشرب مع ذوي أدب ... أو ذي جمال صقيل الخد مبتسم
ودع تعاطيها بين الملا علنا ... واشرب خفاء ولا تكثر ولا تدم"
ويدعو المخمور الله كى يديم له نشوة الخمر فيقول:
ربي افتح لي باب رزق وأرسل ... لي قوتي من دون من الأنام
وأدم نشوة الطلا لي حتى ... تذهلني ما عشت عن الامي
إني وإن ذقت الغرام وقل لي ... من مبهم الأسرار ما لم يفهم
فاليوم حين فتحت عين بصيرتي ... أصبحت أعلم أنني لم أعلم غن فالكون من ثرى وهواء ... كل أنفاسنا فجئ بالمدام
إن ظبيا به استهام فؤادي ... عاد صبا بشادن مستهاما
إن راني الساقي لجدواه أهلا ... عمني في فواضل الإنعام
أنا شربت وتبدي أنت عربدة ... ليت الثرى بفمي، هل كنت نشوانا؟
لو كنت رب اختيار ما أتيت إلى ال ... دنيا ولم أرتحل عنها ولم أبن "
وهو يرى أن شرب الخمر أفضل من التقوى فيقول:
لئن تغد من عطر الحميا بنشوة ... يكن لك خيرا من غرورك بالتقوى
كما يرى أن الجهل بالعلوم الشرل أفضل منهم بقوله:
دع عنك درس العلوم أجمعها ... واشف بأصداغ شادن سقمك
واهرق بكاس دم الزجاج وطب ... من قبل أن يهرق الزمان دمك"
وهو يعلن أنه لن يتوب من شرب الخمر أبدا وإن قال أنه يتوب فهى مزحة بقوله:
قلت سأترك الشراب تائبا ... فهو دم الكرم ولست أسفكه قال لي العقل أجدا قلت ذا؟ ... قلت لقد مازحت، كيف أتركه؟"
ومن ثم فالرجل مصر على شرب الخمر لا يتوب منها أبدا وهو يشربها فى كل الأوقات
-الكفر بالبعث :
كرر الرجل كفره بالبعث وحجته أن من ماتوا لم يعد أحدا منهم للحياة ومن أقواله :
رأيت في حانة شيخا فقلت له: ... " ألا تخبرنا عمن مضوا خبرا "
قال: " ارتشفها فكم أمثالنا رحلوا ... ولم يعودوا ولم نشهد لهم أثرا
اشرب فكم لك قد كررت موعظتي ... إن رحت رحت ولم ترجع ولم تعد
لم نجد من يقول من عاد من ذا ... ك الطريق الذي مضى فيه قبلا
إن الذين ترحلوا من قبلنا ... نزلوا بأجداث الغرور وناموا
إشرب وخذ هذي الحقيقة من فمي ... كل الذي قالوا لنا أوهام
ما شهد النار والجنان فتى ... أي امرئ من هناك قد جاء
لم نر مما نرجو ونحذره ... إلا صفات تحكى وأسماء"
وهو يرى أن نهاية الحياة هى الفناء بقوله:
إن كان عاقبة الوجود هي الفنا ... فافرض فناك وعش سعيدا بالا
إن كنت لا تفنى سوى مرة ... فافن ودع هذا الأسى والشقاء"
وهو يرى أن الخمر هى التى ستحييه إن كان هناك بعث فيقول:
تصنعوا طيني سوى كوز قرقف ... عسى يمتلي بالراح يوما فأنشر
وهو يرى أن البعث ممكن لو كان الإنسان عسجد أى ذهب فيقول:
فلست يا هذا الغبي عسجدا ... حتى توارى في الثرى وتخرجا
رغم كفره بالبعث فيما سبق فهو يعلن جهله بكل شىء حتى بعد الموت فيقول أقوالا عدة منها :
"فيا عالم الأسرار هبني هداية ... ورشدا لأغدو للدعا والمناجاة
لا تحسبني جئت من نفسي ولا ... قطعت وحدي ذا الطريق المعنتا
إن يك منه جوهري ومنشئي ... فمن أنا وأين كنت ومتى
بادر فسوف تعود أدراج الفنا ... وستترك الجثمان منك الروح
واشرب وعش جذلا فلست بعالم ... من أين جئت وأين بعد تروح
إن هذي الدنيا أساطير وهم ... وخيال والعمر كالريح ساري
رأيت في السوق خزافا غدا دئبا ... يدوس في الطين ركلا غير ذي حذر
والطين يدعو لسان الحال منه ألا ... قد كنت مثلك فارفق بي ولا تجر
قيل خلد غدا وحور وكوثر ... أنهر من طلا وشهد وسكر
ألبحث في الدهر لم يثمر لنا ثمرا ... فما نحاه امرؤ بالحكمة اتصفا
كل امرئ هز غصنا منه مضطربا ... اليوم كالأمس والاتي كما سلفا
يد لي في جام وأخرى بمصحف ... وطورا أنا الجاني وطورا أنا العف
أعيش وما لي تحت ذا الأفق مبدأ ... فلا مسلم محض ولا كافر صرف
لا تحسبني جئت من نفسي ولا ... قطعت وحدي ذا الطريق المعنتا
إن يك منه جوهري ومنشئي ... فمن أنا وأين كنت ومتى بادر
فسوف تعود أدراج الفنا ... وستترك الجثمان منك الروح
واشرب وعش جذلا فلست بعالم ... من أين جئت وأين بعد تروح
للصوم والصلوات ملت تنسكا ... فتيقنت نفسي غدا بنجاحي
أسفا فقد نقد الوضوء بنسمة ... والصوم زال بنصف جرعة راح
إشرب الراح فهي روح الروح ... بلسم النفس والحشا المجروح
وإذا ما دهاك طوفان هم ... فانج فيها فذي سفينة نوح
ليس يدري سر الوجود ابن أنثى ... وبتكوينه تحار العقول
ما أرى للفتى سوى الرمس مثوى ... وهو لهفي حكاية ستطول
خيام طب إن نلت نشوة قرقف ... وحباك وردي الخدود وصالا
إذا نلت رطلي قرقف فاحس جامها ... بكل اجتماع راق أو محفل حالي
فما يعتني باري الوجود بشارب ... لمثلك أو يهتم في ذقن أمثالي
دع الماضي وما سيجيء وانعم ... وطب نفسا بكاسات الشمول
وأنفسنا معارات فأطلق ... سراح النفس من قيد العقول
إن راني الساقي لجدواه أهلا ... عمني في فواضل الإنعام
وإذا لم أكن بأهل سقاني ... فوق قدري بعادة الإكرام
سر الحياة لو أنه يبدو لنا ... لبدا لنا سر الممات المبهم
لم تعلمن وأنت حي سرها ... فغدا إذا مت ماذا تعلم؟"
وقد أخذ إيليا أبو ماضى بعض هذه المعانى ووضعها فى قصيدة الطلاسم الشهيرة بلست أدرى ومنها :
جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت
ولقد أبصرت قدامي طريقا فمشيت
وسأبقى ماشيا إن شئت هذا أم أبيت
كيف جئت كيف أبصرت طريقي لست أدري
أجديد أم قديم أنا في هذا الوجود
هل أنا حر طليق أمأسير في قيود
هل أنا قائد نفسي في حياتي أم مقود
أتمنى أنني أدري ولكن لست أدري
-نسبة الاثام لله وعدم مسئولية الإنسان وعدم عقابه :
المخمور يعلن أن الذنوب هى فهل الله وليس فعل الإنسان ومن ثم فمن الظلم العقاب عليها وهو يقول هذا فى اقوال كثيرة منها :
"علام تأسى للذنب يا عمر ... ماذا تفيد الهموم والفكر
لا عفو عمن لم يجن معصية ... العفو عمن عصى فما الحذر
إن ديني الهنا ورشف الحميا ... وابتعادي عن كل دين وكفر
فما يعتني باري الوجود بشارب ... لمثلك أو يهتم في ذقن أمثالي
إن تجد لي بالعفو لم أخش ذنبا ... أو تهب لي زادا أمنت العناء
أو تبيض بالعفو وجهي فإني ... لست أخشى صحيفتي السوداء
إلهي قل لي من خلا من خطيئة ... وكيف ترى عاش البريء من الذنب
إذا كنت تجزي الذنب مني بمثله ... فما الفرق ما بيني وبينك يا ربي قالوا سيقبل منك ربك توبة ... لا الله قابلها ولا أنا تائب
لا تتب قط عن الراح فكم ... توبة منها يتوب التائب
قد شدا البلبل والورد رها ... أبذا الوقت يتوب الشارب؟
ألقيت في كل منهج شركا ... وقلت من يحظ خطوة هلكا
بالذنب أغريتني وتنسب لي ... ذنبا وكل الأحكام في يدكا
قم ودع هم عالم سوف يفنى ... واغتنم لحظة السرور لديكا
إشرب فكم ستنام في قعر الثرى ... يا صاح دون حليلة وخليل
لا تفش ذا السر الخفي لدى امرئ ... لن تزهو الأزهار بعد ذبول
إن لم يكن ربي قد شاء ما ... شئت فهل يمكنني فعله
فإن يكن شاء صوابا فما ... شئت سواه خطاء كله
أليوم ما لك في أمر الغداة يد ... وليس فكر غد إلا من الخبل
أنت أبدعتني من الماء والط؟ ... ين كما قد نسجت ألياف جسمي
كل شر مني يلوح وخير ... أنت قدرته فما هو جرمي
تارك الراح لا تذم السكارى ... إن أوفق أتب ويمحى الأثام
حل فكري في الكون كل معمى ... من حضيض الثرى لأوج النجوم
قد تبينت كل مكر ومر ... فيه إلا سر الردى المحتوم
أنا لست أقنط من خالق ... رحيم لعبء ذنوبي الجسام
إذا اليوم مت صريع الطلا ... سيعفو غدا عن رميم العظام
لم تقل لي ما قلت إلا لحقد ... زاعما أنني بلا إسلام
أنا أقررت بالذي قلت لكن ... أنت أهل لمثل هذا الكلام؟
يا من غدوت لجوكان القضا كرة ... سر كيف شاء ولا تنبس ببنت فم
فمن رمى بك في الميدان مضطربا ... أدرى وأعلم ما يجري من القدم
إن القضاء لأمر لا يرد وما ... نصيب ذي الهم إلا السقم والألم
إن تقض عمرك مهموم الفؤاد فلن ... تزيد شيئا على ما خطه القلم
لي نقدا ساق وعود وروض ... ولك الوعد في غد بالنعيم
صياد ذا الدهر ألقى الحب في شرك ... فصاد صيدا وقد سماه إنسانا
فكل خير وشر منه قد نشا ... وراح يعزو لهذا الخلق عصيانا
لا تؤمل ما فوق ستين حولا ... لك عمرا ولازم السكر واهنا
والزم الدن والكؤوس مداما ... قبل أن يصنعوا رفاتك دنا
قد كان يدري الله كل فعالنا ... من يوم صور طيننا وبرانا
لم نرتكب ذنبا بدون قضائه ... فإذن لماذا ندخل النيرانا؟
-المخمور يظن أن الله رحيم بالمصرين على الذنوب وهو سيدخلهم الجنة ويرحمهم إن كان هناك جنان أو نار فيقول :
يا من يفكر ليله ونهاره ... بالعيش هلا خفت يوم رداكا
ارجع لنفسك واصح وانظر لحظة ... فعل الزمان وصنعه بسواكا
أنا عبدك العاصي فأين رضاكا ... ولقد دعى قلبي فأين سناكا
إن كنت تمنحنا الجنان بطاعة ... يك ذا لنا بيعا فأين عطاكا
أيا من أتى بي للوجود بقدرة ... وربيت في نعمائه أتدلل
سأمتحن العصيان مائة حجة ... لأعلم ذنبي أم سماحك أجزل
ثوب قدسي خلعته فوق دن ... وتيممت في ثرى الحان حرما
دع حديث الجنان والنار من جا ... ء من الخلد أو مضى للجحيم؟
إن كان أهل الحب والراح في ... لظى فلن تلقى امرأ في الجنان
إن لم أطعك إلهي في الحياة ولم ... أطهر النفس من أدران عصيان
فليست النفس من جدواك قانطة ... إذ لم أقل قط إن الواحد اثنان
كم في المدارس والصوامع أنفس ... ترجو الجنان وتختشي النيرانا
لكن من عرف الإله وسره ... لم يشغلن بذي الأمور جنانا"
وهى وجهة نظر بعض الكفار الذين قالوا للمسلمين لو هناك بعث فستكون الحسنى وهى الجنان نصيبنا وهو قوله تعالى :
"ولئن رجعت إلى ربى إن لى عنده للحسنى"
وقال:
"ويجعلون لله ما يكرهون وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى"
-زعم المخمور أن الكون باق تتغير ذراته فالذرات تكون مرة فى حيوان ومرة فى إنسان ومرة فى نبات ومرة فى جماد فهى تكون جزء من كائن ثم تنتقل لكائن أخر وفى هذا قال:
كل ذرات هذه الأرض كانت ... أوجها كالشموس ذات بهاء
أزل عن وجهك الغبار برفق ... فهو خد لكاعب حسناء
وقال :
تدري لما اخترت الطلا؟ كيلا أرى ... يا صاح مثلك مولعا في ذاتي
إن بدري يلوح في كل شكل ... حيوانا طورا وطورا نباتا
وقال:
عش هنيئا فالدهر ليس بفان ... وستبقى النجوم ذات اقتران
وسيغدو ثراك لبنا فيبني ... في قصور للناس أو إيوان
وقال :
وعجيب أن الذي ليس يهوى ... رصهم لا يرونه إنسانا
لا تخله يزول هيهات فالمو ... صوف إن يفن وصفه يبق ذاتا
وجود ذا الكون من بحر الخفاء بدا ... وسره لم يبن يوما لدى الأمم
كل امرئ قال وهما عن حقيقته ... والحق ما فاه فيه واحد بفم"
ومع قوله ببقاء الكون فإنه يناقض نفسه معلنا أنها فان فيقول:
ما الكون دار إقامة فأخو النهى ... أولى به أن يدمن الصهباء
أطفئ بماء الكرم نيران الأسى ... فلسوف تذهب في الهواء هباء"
وهو يزعم أن الله لم ينظم الكون ففيه عيوب فيقول:
لماذا غداة الرب ركب هذه ال ... عناصر لم يحكم تناسبها الرب
إذا راق مبناها ففيم خرابها ... وإن لم ترق مبنى فممن أتى العيب؟
ومع هذا يعلن ان الكون له نظام فيقول:
كما لم نكن والكون كان منظما ... سنفنى ويبقى بعد وهو نظيم"
-دعا المخمور للفجور وهو الشرب وجماع النساء طالبا ترك الصلاة والمساجد والطاعات فقال:
دع عنك حرص الوجود واهنأ ... إن أحسن الدهر أو أساء
واعبث بشعر الحبيب واشرب ... فالعمر يمضي غدا هباء
إن تواعدتم رفاقي لأنس ... وسعدتم بالغادة الهيفاء
وأدار الساقي كؤوس الحميا ... فاذكروني في شربها بالدعاء
وإذا ما أتى لدى الشرب دوري ... فأريقوا كأسي على الغبراء
إن كنت لا تفنى سوى مرة ... فافن ودع هذا الأسى والشقاء
لقد ان الصبوح فقم حبيبي ... وهات الراح واشرع بالغناء
كن كالشقائق ممسكا كأسا لدى الن؟ ... يروز مع وردية الوجنات
أحسو المدام ولا أعربد قط أو ... كفي تمد لما عدا الكاسات
إن ظبيا به استهام فؤادي ... عاد صبا بشادن مستهاما
حتى م صومك والصلاة تنسكا ... فدع المساجد واقصدن الحانا
واشرب فسوف ترى رفاتك تارة ... كوزا وأخرى أكؤسا ودنانا
أتمنى ديوان شعر ونصفا ... من رغيف وكوز صهباء حان
وجلوسا مع الحبيب بقفر ... ذاك خير من ملك ذي سلطان
-كما هو حال من ينكر وجود الله ومن ثم البعث والحساب فإنه فى كثير من الساعات يعود لرشده فيطلب العفو ويتوب فالمخمور فى وسط فجوره وكفره قال أقوال مثل:
"فقلت هلا من الله اعتراك حيا ... قال احسها فهو يعفو
واترك الهذرا يا دهر هل بالذي تأتيه تعترف
ألم تزل بزوايا الظلم تعتكف
وعدت على كره ولم أدر أنني ... لماذا أتيت الكون أو فيم أذهب
كل يوم أنوي المتاب إذا ما ... جاءني الليل عن كؤوس الشراب
فأتاني فصل الزهور وإني ... فيه يا رب تائب عن متابي
ألا ارحم يا إلهي لي فؤادا ... من الأشجان أمسى في عذاب
ورجلا بي سعت للحان قدما ... وكفا أمسكت قدح الشراب
يا عالما بجميع أسرار الورى ... ونصيرهم في العجز والكربات
كن قابلا عذري إليك وتوبتي ... يا قابل الأعذار والتوبات
فسبحان ربي كل شيء نظرته ... رأيت به يأسي لعيني ممثلا
نفسي الفداء لكل كفء عارف ... أهوي على قدميه غير مبال
لو ارتكبت خطايا الناس كلهم ... لكنت أرجو لذنبي منك غفرانا
قد قلت إنك يوم العجز تنصرني ... لا عجز أعظم لي من عجزي الانا
للصوم والصلوات ملت تنسكا ... فتيقنت نفسي غدا بنجاحي"
-الرباعيات مليئة بالاستهزاء بالله ودينه ومن ذلك:
يعيب على الله حكم نقض الوضوء بالنسمة وهى الهواء ممثلا فى الفساء والضراط والفطربنصف جرعة خمر فيقول:
أسفا فقد نقض الوضوء بنسمة ... والصوم زال بنصف جرعة راح
وهو يشتم الذات العلية لعنة الله عليه فسيقول عنها أنها حمار أو خرفان فيقول اعتراضات على الابتلاء بالرزق:
تعطي اللئيم نعيما والكريم عنا ... لا شك إما حمار أنت أو خرف
وهو يسخر من الحشر ويقول أنه عند الحشر سيكون أمام باب الحانة غير مبال بالحشر فيقول:
ولدى الحشر إن أردتم لقائي ... من ثرى باب حانة فاطلبوني
نفس بين كفرنا والدين ... نفس بين شكنا واليقين
كسرت يا رب إبريق المدام كما ... سددت لي باب عيشي
حيثما كنا إني وإن كنت لذنبي في شقا ... فلست يائسا ككفار الورى"
وهو يسخر من الجنة وصلاة الجمعة ويعشق الخمر والموسيقا والجماع فيقول
"أتقول أين تروح من بعد الردى ... هات المدام وأين ما شئت اذهب
رأيت في النوم ذا عقل يقول ألا ... لا يجنين الفتى من نومه طربا
حتى م ترقد كالموتى فقم عجلا ... فسوف تهجع في جوف الثرى حقبا
قال قوم أطيب الحور في الجن ... ة قلت المدام عندي أطيب
فاغنم النقد واترك الدين واعلم ... أن صوت الطبول في البعد أعذب
إن تشرب المدام أسبوعا فلا ... تدع لدى الجمعة قدسا شربها
ألسبت والجمعة عندي استويا ... لا تعبد الأيام واعبد ربها
هذا أوان الصبوح والطرب ... ونحن والحان وابنة العنب
أصمت نديمي هل ذا محل تقى ... واشرب وخل الحديث واجتنب
لم أشرب الراح لأجل الطرب ... أو ترك ديني واطراح الأدب
رمت الحياة دون عقل لحظة ... فهمت بالسكر لهذا السبب
لا عشت إلا بالغواني مغرما ... وعلى يدي تبر المدام الذائب"
وهو يسخر من الزواج لكونه تعب وبطلب العزوبية فيقول:
ما خلق الله راحة وهنا ... إلا لمن عاش مفردا عزبا
من ترك الانفراد واقترنا ... فقد جنى بعد راحة تعبا
وهو يطلب هدم الصوم والصلاة ويبنى الحياة على الغناء والشرب والخلاعة فيقول :
ما اسطعت كن لبني الخلاعة تابعا ... واهدم بناء الصوم والصلوات
واسمع عن الخيام خير مقالة ... إشرب وغن وسر إلى الخيرات
أحس الطلا عنك يزل هم الورى ... وقلة الأمور أو كثرتها
ولا تجانب كيمياء قهوة ... تزيل ألف علة قطرتها
إلى الحان أغدو كل يوم مبكرا ... وأصحب فيه ثم أهل الخلاعات
وهو يسخر من الأخرة ويقول أن كثرة ذنوبه ستكسر ميزان الحساب فيقول:
لست أدري هل الإله براني ... لجنان الأخرى أو النيران
لي نقدا ساق وروض وراح ... ولك الوعد في غد بالجنان
هد ركن الإيمان ذنبي وأنسى ... ذنب من راح يعبد الأوثانا
أنا أخشى ذنبي متى وزنوه ... يوم حشر أن يكسر الميزانا"
وهو يسخر من الله طالبا منه التغافل واعتبار رمضان شوال فيقول:
إذا ما جاءنا رمضان يلقى ... به القيد الثقيل على حجانا
فأغفل يا إلهي الناس حتى ... يخالوا أن شوالا أتانا
حل السما ثور وثور غدا ... يحتمل الأرض بقرنين
أنظر بعين العقل كيما ترى ... قطيع حمير بين ثورين
سأطوين صاح أعلام النفاق غدا ... وأقصدن بشيبي الراح والحانا
بلغت سبعين حولا كاملا فمتى ... ألقى الهناء إذا لم ألقه الانا؟
وهو يهزأ بالفقهاء معتبرا إياهم سفاحين للدماء بينما هو سفاح للعنب المتخمر فيقول:
نحن يا مفتي الورى منك أدرى ... لم تزل عقلنا مدى السكر راح
أنت تحسو دم الأنام ونحسو ... دم كرم فأينا السفاح
إلى م تعاني للمقدر محنة ... ومن باطل الأفكار تمسي بأتراح
فعش في سرور واقض دهرك بالهنا ... فلم يكلوا أمر القضا لك يا صاح
نعم أنا من راح المجوس بنشوة ... وصب خليع لم أزل مدمن الراح
يرى كل حزب في رأيا ومذهبا ... وإني لنفسي كيفما كنت يا صاح
وهو يسخر من المؤمنين ويعتبرهم بله أى مجانين لعملهم بطاعة الله فيقول:
إن من لازموا المحاريب ليلا ... والألى عاقروا كؤوس الرحيق
غرق الكل ما بهم قط ناج ... وغفوا كلهم فما من مفيق
فكرت في الدين أقوام كما ... حار بين الشك والقطع فريق
فإذا الهاتف يدعوهم أيا ... بله لا هذا ولا ذاك الطريق
زينت وجنة ذياك المليح لنا ... يا رب في سنبل كالمسك ذي عبق
ورحت تأمر أن لا تنظرن له ... كما تقول " أمل كأسا ولا ترق "
وهو يريد ان بكون الناس كلهم كفارا مخمورين مثله فيقول:
يا ليت كل حرام مسكر لأرى ... في الكون كل فتى من ذنبه ثملا
عش وابنة الكرم في هناء ... واشرب ودع باطل الخيال
فالبنت مهما تكن حراما ... أطيب من أمها الحلال
وهو يسهر من قضاء الله ويقول أنه سيعكس القضاء حتى يكون الله جاهر فيقول:
درى الله قدما بارتشافي للطلا ... فإن أجتنبها ينقلب علمه جهلا
وهو هنا كما فى معظم الرباعيات كافر جاهل فهو لا يعرف القضاء حتى يستطيع تبديله والغريب أن يعترف بذلك فيقول :
فجار دهرك واخضع للقضاء فلن ... تطيق تبديل ما قد خطه القلم"
وهو يطلب من الناس أن يكونوا حميرا لأن عباد الله وغيره الذى يعترف بوجوده فى النص جهلاء فيقول:


حين جود الإله فاض براني ... وبدرس الغرام قدما حباني
ولقد صاغ من قراضة قلبي ... بعد هذا مفتاح كنز المعاني
حتى م أبني على سطح المياه لقد ... سئمت ديرا وعبادا لأوثان
من قال إني من أهل الجحيم ومن ... أتى من الخلد أو ولى لنيران؟
حتى م تصبح للأطماع حلف عنا ... حيران تعدو بهذا الكون مفتتنا
كن حمارا في معشر جهلاء ... أيقنوا أنهم أولو العرفان
فهم يحسبون للجهل من لي؟ ... س حمارا خلوا من الإيمان
من برى أكؤس الرؤوس وأبدى ... عند تكوينها أدق الفنون
كب كأسا من فوق مائدة الكو ... ن دهاقا قد أترعت بالجنون
أسفا لقلب ليس يذكيه الهوى ... شغفا وليس يهيم قط بشادن
لا يوم أضيع قط من يوم امرئ ... يقضيه دون غرام ظبي فاتن"
وهو لعنه الله يعتبر النفس إلها لها العرش فوق السماء فيقول:
أيها النفس لو نفضت غبار ال؟ ... جسم أضحى فوق السما لك مأوى
لك عرش فوق السماء فعيب ... أن تجيئي وترتضي الأرض مثوى
من العار أن تسعى لتحصيل شهرة وأن تشتكي من جور ذا الفلك البلوى"
وهو يزعم أن الجنة والنار داخل الإنسان فيقول:
حلقت بالفكر من فوق السما لأرى ال ... جنان والنار والألواح والقلم
فصاح داعي الحجى فيك الجنان زهت والنار شبت وفيك اللوح قد رقما
ويناقض نفسه فيجعل النار وهى الجحيم مصاحبة الجهال فيقول:
أتريد معرفة الجحيم بكنهها ... إن الجحيم لصحبة الجهال"
وهو يرى أن الخمر هى الحل لكل مشكلات العالم فيقول:
"تقلل الراح تكبر الورى ... وهي تحل مشكلات العالم
لو ذاق إبليس المدام مرة ... أتى بألفي سجدة لادم"
ونختم هذا الكفر الصراح بقوله:
أرى أجداثنا تبنى بلبن ... غدا يا صاح إن نرد المنونا
ويصنع من ثرانا بعد لبن ... به تبنى قبور الاخرينا"
وهو قول يشبه المعرى :
صاح هذي قبورنا تملأ الرحب فأين القبور من عهد عاد
خفف الوطء ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد
وقبيح بنا وإن قدم العهد هوان الاباء والأجداد
سر إن اسطعت في الهواء رويدا لا اختيالا على رفات العباد
رب لحد قد صار لحدا مرارا ضاحك من تزاحم الأضداد
ودفين على بقايا دفين في طويل الأزمان والاباء

الخميس، 28 مايو 2020

نقد رسالة فخر السودان على البيضان2

وهو كلام لا مجال فيه للفخر فالخالق خلق البياض والسواد مثلا فى العين فالفضل للخالق وليس للسواد أو البياض وكذلك الكلام فى الجبال وغيرها وقد أكمله بالكلام الفارغ التالى:
"وقال ذو الرُّمَّة:
لمياء في شفتيها حُوَّةٌ لمس وفي اللثات وفي أنيابها شنب
وأطيب الظِّلِّ وأبرده ما كان أسود وقال الراجز: " سود غرابيب كأظلال الحجر "قال حميد بن ثور:
ظللنا إلى كهفٍ وظلَّت ركابنا إلى مستكفاتٍ لهنَّ غروب
إلى شجرٍ ألمى الظلال كأنه رواهب أحرمن الشراب عذوب
وجعل الله الليل سكناً وجماما، والنهار للكسب والكدّ
والذي يدلُّ على أن السواد في وجه آخر مقرونٌ بالشدة والصرامة، والهيج والحركة، انتشار الحيَّات والعقارب وشدة سمومها بالليل، وهيج السباع واستكلابُها بالليل وتحرك الأوجاع وظهور الغيلان، هذه كلها بالليل
قال: وأشبهنا الليل من هذا الوجه
قالوا: وأبلغ ما تكون القائلة وأشفاها للنفس، وأسرع لمجيئها إذا أردتها، وأبطأ لذهابها إذا كرهتها، ما كان منها في الظلمة، عند إسبال الستور وإغلاق الأبواب
قالوا: وليس لونٌ أرسخ في جوهره وأثبت في حسنه من سواد
وقد جرى المثل في تبعيد الشيء: " لا ترى ذلك حتى يبيضَّ القار، وحتى يشيب الغراب "هو العرض الملاَّء عند الحكماء
وأكرم العطر المسك والعنبر، وهما أسودان
وأصلب الأحجار سُودها وقال أبو دهبلٍ الجمحيُّ يمدح الأزرق المخزوميَّ، وهو عبد الله بن عبد شمس بن المغيرة:
فإنَّ شكرك عندي لا انقضاء له ما دام بالجزع من لبنان جلمودُ
أنت الممدَّح والمُغلى به ثمناً إذ لا يعاتب صخر الجندل السُّود
والعرب تفخر بسواد اللون فإن قال: فعلام ذلك وهي تقول: فلانٌ هجانٌ، وأزهر وأبيض، وأغرُّ؟ قلنا: ليس تريد بهذا بياض الجلد، إنما تريد به كرم الجوهر ونقاءه وقد فخرت خضر محاربٍ بأنها سود، والسود عند العرب الخضر وقال الشَّماخ بن ضرار:
وراحت رواحاً من زرود فنازعت زبالة جلباباً من الليل أخضراوقال الراجز:
حتى انتضاني الصبح من ليلٍ خضرْ مثل انتضاء البطل السيف الذّكرْ
وهم يسمُّن الحديد أخضر لأنه صُلب؛ لأن الأخضر أسود
وقال الحارث بن حِلِّزة:
إذ رفعنا الجمال من سعف البح رين سيراً حتى نهاها الحساء
فهزمنا جمع ابن أمِّ قطام وله فارسةٌ خضراء
وقال المحاربيّ وهو يفخر بأنه من الخضر:
في خضر قيسٍ نماني كل ذي فخرٍ صعب المقادة آبي الضَّيم شعشاع
وبنو المغيرة خضر بني مخزوم قال عمر بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي ويقال إنها للفضل بن العبّاس اللِّهبي:
وأنا الأخضر من يعرفني أخضر الجلدة في بيت العرب
من يساجلني يساجلْ ماجداً يملأ الدلو إلى عقد الكرب
خضر غسّان بنو جفنة الملوك؛ قال الغسّانيّ:
إن الخضارمة الخضر الذين ودوا أهل البريص نماني منهم الحكم"
وذكر الجاحظ كون بنى هاشم سود وكذلك الكثير من العرب فقال:
"وقد ذكر حسانٌ أو غيره الخضر من بني عكيم حين قال:
ولست من بني هاشمٍ في بيت مكرمةٍ ولا بني جمح الخضر الجلاعيد
قالوا: وكان ولد عبد المطلب العشرة السَّادة دُلْماً ضخما، نظر إليهم عامر بن الطُّفيل يطوفون كأنهم جمالٌ جونٌ، فقال: بهؤلاء تُمنع السَّدانة
وكان عبد الله بن عباس أدلم ضخما وآل أبي طالبٍ أشرف الخلق، وهم سودٌ وأدمٌ ودلْم قالوا: وقال النبي (ص): " بُعثت إلى الأحمر والأسود "
وقد علمت أنه لا يُقال للزِّنج والحبشة والنُّبة بيضٌ ولا حمر، وليس لهم اسمٌ إلا السُّود وقد علمنا أن الله عزّ وجل بعث نبيه إلى الناس كافة، وإلى العرب والعجم جميعاً فإذا قال: " بُعثت إلى الأحمر والأسود " ولسنا عنده حُمرٌ ولا بيض، فقد بُعث إلينا؛ فإنما عنانا بقوله " الأسود " ولا يخرج الناس من هذين الاسمين، فإن كانت العرب من الأحمر، فقد دخلت في عداد الروم والصَّقالبة، وفارس وخراسان وإن كانت من السُّود، فقد اشتَّق لها هذا الاسم من اسمنا وإنما قيل لهم وهم أدم وسمرٌ سودٌ، حين دخلوا معنا في جُملتنا، كما يجعل العرب الإناث من الذكور ذكورا وإذا كان النبي (ص) يعلم أن الزِّنج والحبشة والنوبة ليسوا بحمرٍ ولا بيض، وأنهم سود، وقد بعثه الله تعالى إلى الأسود والأحمر، فقد جعلنا والعرب سواء، ونكون نحن السُّود دونهم فإن كان اسم أسود وقع علينا فنحن السُّودان الخُلَّص، والعرب أشباه الخُلَّص فنحن المتقدِّمون في الدَّعوة وإذا كان اسمهم محمولاً على اسمنا؛ إذ كنَّا وحدنا يقال لنا سودٌ، ولا يقال لهم سودٌ إلا أن يكونوا معنا"
وهذا الكلام من ضمن الخبل فالله لم يقل أن الرسول(ص)بعث لذوة لونين وإنما قال بعث للناس جميعا كما قال تعالى "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين" وقال "وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا"
ثم دخل إلى الفخر بالعدد وهو كلام مؤلف كسابقه الغرض منه هو تكريه الناس فى بعضها البعض بسبب الألوان فقال :
"قالوا: وأنتم ترون كثرة العدد مجداً، ونحن أكثر الناس عدداً وولدا قالوا: ونحن صنفان: النَّمل والكلاب قالوا: ولو عدلْتم بالنَّمل العرب كلها لأربتْ عليها فكيف إذا قُرنت إليها الكلاب؟ ثم كيف إذا ضممتم إليها الحبشة والنُّوبة وفزَّان ومرو وزغاوة وغير ذلك من أنواع السُّودان؟ وليست قحطان من عدنان في شيء ونحن بالحبشة أشبه، وأرحامنا بهم أمسُّ من عدنان بقحطان وإن ذكرتم اختلاف اللُّغات؛ فإن لغة عجز *****، وقد تختلف اللغات والأصل واحد، وقد تتَّفق والنَّجْر مختلف ومن دخل أوائل خراسان وأواخرها، وأوائل الجبال وفارس وأواخها، علم أن اللغات قد تختلف لاختلاف طبائع البلدان والأصل واحد
قالوا: وأنتم لم تروا الزِّنج الذين هم الزنج قطُّ، وإنما رأيتم السَّبْي يجيء من سواحل قنبلة وغياضها وأوديتها، ومن مهنتنا وسفلتنا وعبيدنا، وليس لأهل قنبلة جمالٌ ولا عقول وقنبلة: اسم الموضع الذي ترفون منه سفنكم إلى ساحله لأن الزِّنج ضربان: قنبلة ولنجوية، كما أن العرب ضربان: قحطان وعدنان وأنتم لم تروا من أهل لنجوية أحداً قطُّ، لا من السواحل ولا من أهل الجوف، ولو رأيتموهم نسيتم الجمال والكمال فإن قلتم: وكيف ونحن لم نر زنجياً قط له عقل صبيٍّ أو امرأة؟ قلنا لكم: ومتى رأيتم من سَبْي السند والهند قوماً لهم عقول وعلم وأدب وأخلاق حتى تطلبوا ذلك فيما سقط إليكم من الزنج وقد تعلمون ما في الهند من الحساب وعلم النجوم وأسرار الطب، والخرط والنجر، والتصاوير والصناعات الكثيرة العجيبة، فكيف لم يتَّفق لكم مع كثرة ما سبيتم منهم واحدٌ على هذه الصفة، أو بعشْر هذه الصِّفة؟ فإن قلتم: أهل الشرف والعقل والعلم إنما ينزلون الواسطة، وبقرب دار الملك، وهؤلاء حاشيةٌ وأعلاجٌ وأكرة، ونُزَّال السواحل والآجام والفيوض والجزائر، من أكارٍ ومن صياد
قلنا: وذلك من رأيتم ومن لم تروا منا وجوابنا هو جوابكم لنا
قالوا: ولو أن الزِّنجيَّ والزنجيَّة إذا تناكحا بقيت أولادهما بعد الحيض والاحتلام ببلاد العراق، كانوا قد غلبوا على الدَّار بالعدد والجلد، والعلم والتدبير، ولكن ولد الهنديِّ والهنديّة، والروميِّ والروميّة، والخراسانيّ والخراسانيّة، يبقون فيكم وفي بلادكم كبقاء آبائهم وأمهاتهم، ولا يبقى ولد الزِّنجيَّين بعد الحيض والاحتلام على أنّا لا نصيب في عشرة آلافٍ، واحدٌ يبلغ ما ذكرنا، إلا أن يضرب الزّنجيُّ في غير الزِّنجيات، والزنجيّة في غير الزِّنج ولولا أن الزّنجي والزّنحيّة قليلاً ما يريدان من الغرائب والغرباء، لكْنَّا على حالٍ سنرى لرجال الزِّنج نسلاً كثيراً ولكنَّ الزّنجيّة لا تكاد تنشط لغير الزّنجيّ
قالوا: وكذلك البيضان منكم، لا يكادون ينشطون لطلب النَّسل من الزِّنجيات والزِّنجية أيضاً من الزِّنجي أسرع لقاحاً منها من الأبيض
قالوا: وأنتم لا تكادون تعدُّن ممن ولد له من صلبه مائة ولدٍ إلا أن يكون خليفةً، فيكون ذلك لكثرة الطَّروقة، ولا تجدون ذلك في سائركم والزِّنج لا تستكثر هذا ولا تستعظمه؛ لكثرته في بلادهم، لأن الزّنجية تلد نحواً من خمسين بطناً في نحو خمسين عاما، في كل بطنٍ اثنين، فيكون ذلك أكثر من تسعين لأنه يقال إن النساء لا يلدن إذا بلغن الستين إلا ما يحكى عن نساء قريشٍ خاصة والزّنج أحرص من خلق الله على نسائهم، ونساؤهم لهم كذلك، وهنَّ أطيب من غيرهنّ"
الرجل يحكى لنا عن كثرة عددهم وكونهم أكثر الناس إنجابا وهو كلام فارغ فكثرة العدد تعود لقضاء الله وليس للون البشر كما قال تعالى :
"لله ملك السموات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما"
ثم قال كلاما مؤلفا أخر فقال :
"قالوا: فتأملوا قولنا واحتجاجنا؛ فإنا قد روينا الأخبار وقلنا الأشعار، وعرفناكم وعرفنا الأمم وقد كان الفرزدق أعلم الناس بالنساء، وكان جرب الأجناس كلها فلم يجد مثلهنّ، ولذلك تزوج أم مكّيّة الزنجية وأقام عليها، وترك النساء، للذي وجد عندها وفي ذلك قال:
يا رُبَّ خوْدٍ من بنات الزِّنج تمشي بتنُّورٍ شديد الوهج
أختم مثل القدح الخلْنج
وكانت دنانير بنت كعبوية الزِّنجي عند أعشى سليم، وكانت شديدة السواد، فرآها يوماً وقد خضبت يديها بالحناء، واكتحلت بالإثمد، فقال:
تخضب كفّاً بتكْتْ من زندها فتخضب الحناء من مسودِّها
كأنها والكحل في مرودِّها تكحل عينيها ببعض جلدها
فلما سمعت ذلك قالت:
وأقبح من لوني سواد عجانه على بشرٍ كالقلب أو هو أنصع
فسمَّوه أسود، وصاح به الصبيان فطلقها وقد كان صبيحة عرسها قال: إن الدنانير تكون سودا فقالت:
بياض الرأس أقبح من سوادي وشيب الحاجبين هو الفضوح
فأمسك عنها حيناً ثم عاودها، فلما فضحته طلقها قالوا: وإن نظر البضان إلى نساء السودان بغير عين الشهوة فكذلك السودان في نساء البضان على ان الشهوات عاداتٌ وأكثرها تقليد من ذلك أن أهل البصرة أشهى النساء عندهم الهنديات وبنات الهنديات والأغوار واليمن أشهى النساء عندهم الحبشيات وبنات الحبشيات وأهل الشام أشهى النساء عندهم الروميات وبنات الروميات وكل قومٍ فإنما يشتهون جلبهم وسبيهم إلا الشاذ، وليس الشاذ قياس قالوا: وأطيب الأفواه نكهةً، وأشدها عذوبةً، وأكثرها ريقاً، أفواه الزنج والكلاب من بين السِّباع أطيب أفواهاً منها قالوا: والسود ملاومٌ للعين، وإذا اعتلت فخيف عليها لم يكن لها دواءٌ خيرٌ من القعود في الظلمة وفي يد صاحبها خرقةٌ سوداء فالسواد للإبصار، وخير ما في الإنسان البصر"
وهذا الكلام كلام خبل فالناس متفاوتون فيما يحبون وفيما يفضلون من النساء وكذلك النساء فى الرجال ثم عاد إلى عدد السودان والبيضان فقال كلاما يعلمه الله وحده وهو كثرة هؤلاء عن هؤلاء فقال :
"وقالوا: والسودان أكثر من البيضان، لأن أكثر ما يعد البيضان فارس والجبال وخراسان، والروم والصقالبة وفرنجة والأبر، وشيئاً بعد ذلك قليلاً غير كثير والسودان يعدون الزنج والحبشة، وفزان وبربر، والقبط والنوبة، وزغاوة ومرو، والسند والهند، والقمار والدبيلا، والصين وماصين والبحر أكثر من البر، وجزائر البحر ما بين الصين والزنج مملوءةٌ سوداناً، كسرنديب، وكله، وأمل، وزابج وجزائرها إلى الهند إلى الصين إلى كابل وتلك السواحل
قالوا: وكان الأعمى الاشتيام يقول: السودان أكثر من البيضان، والصخر أكثر من الوحل، والرمل أكثر من التراب، والماء المالح أكثر من العذب
قالوا: ومنا العرب لا من البيضان؛ لقرب ألوانهم من ألواننا والهند أسفر ألواناً من العرب، وهم من السودان ولأن النبي (ص) قال: " بعثت إلى الأحمر والأسود " وقد علم الناس أن العرب ليست بحمر كما ذكرنا قبل هذا قال: فهذا المفخر لنا وللعرب على جميع البيضان إن أحبَّتْ ذلك العرب؛ وإن كرهته فإن المفخر لنا بالذي ذكرنا على الجميع"
ثم أدخلنا الرجل فى خرافة أخرى وهو الزابج من ملوكهم جبار لديه من الرجال والسلاح ما يسيطر به على أى أهل بلد فقال :
"قالوا: ولو لم نكثركم إلا بالزابج وحدها لفضلناكم بهم فضلاً مبيناً؛ وذلك أن ملك الزابج إن غضب على أهل مملكة ولم يتقوه بالخراج بعث ألف سنبوقة في كل سنبوقة ألف رجل على أن لا يجلدونهم ولا يقاتلونهم، ولكن يأمرهم أن يقيموا أبداً فيهم حتى يتَّقوهم بالخراج، فيكون ما يأكلون ويشربون ويغذون ويلبسون، أضر عليهم من مقدار الخراج المرار الكثيرة فإن اتقوهم بالخراج وإلا أرسل إليهم ألف سنبوقة أخرى، فلا يجد ذلك الملك بداً من أن يتقيه بكل ما طلب، ولا يأمن أن يغضب فيأتي عليه وعلى أهل مملكته
قالوا: ولقد نزل ملك الزابج على خليجٍ مرةً والخليج فراسخ في فراسخ، فبينما هو على مائدته وفي سرادقه على شواطئ الخليج، إذ سمع صارخةً فقال: ما هذا؟ وقطع الأكل قالوا: امرأةٌ سقط ابنها في هذا الخليج فأكله التمساح قال: وفي مكانٍ أنا فيه شيءٌ يشاركني في قتل الناس! ثم وثب فإذا هو في الخليج فلما رأوه الناس سقطوا عن آخرهم، فخضخضوه وهو فراسخ في فراسخ، حتى أخذوا تمساحٍ فيه أخذ يدٍ فقال: إن أهل الزابج وأغبابها أكثر من شطر أهل الأرض"
ثم تحدث حديث الغائب الذى لم يشاهد فتكلم عن أخر العمران وهو اليابسة فادعى أنه كله من السودان فقال :
"قالوا: وآخر العمران كله سودانٌ، وما استدار من أقاصي العمران أكثر من أهل الواسطة، كطوق الرحى الذي يلي الهواء، الذي هو أوسع وأكثر ذرعاً مما قصر عنه من فلك الرحى ولنعتبر ذلك بالجناح المطيف، لا يرى أحد ذرعه مع قلة عرضه، ونجده أكثر ذرعاً من نفس الدار وليس خلف الزابج بيضانٌ، وكذلك جميع بلاد السودان الساكنة في الأطراف وفي آخر أطواق العمران قالوا: فهذا دليل على أنّا أكثر، وإذا كنّا أكثر كنَّا أفخر وقد قال شاعركم:
ولست بالأكثر منه حصىً وإنما العزّة للكاثر"
ثم زعم كون القبط من السودان وأن منهم إبراهيم(ص) وإسماعيل(ص)فقال "
"قالوا: والقبط جنسٌ من السودان وقد طلب منهم خليل الرحمن الولد فولد له منهم نبيٌّ عظيم الشأن، وهو أبو العرب إسماعيل عليه السلام وطلب النبيُّ (ص) منهم الولد، وولد له إبراهيم، وكنَّاه به جبريل قالوا: والحجر الأسود من الجنَّة والنُّحاس إذا اشتد سواده كان أثمن وأجود فمن استنكر لون السواد فما في فرنجة والرُّوم والصقالبة من إفراط سبوطة الشعر والرّقّة والصهوبة، والحمرة في شعر الرأس واللِّحية، وبياض الحواجب والأشفار، أقبح وأسمج وليس في السودان مُغْرَب، ليس المغرب إلا فيكم ولا سواءٌ من لم تنضجه الأرحام وما جازت به حد التمام"
والكلام هنا ذم لخلقة الله وهو كلام لا يقوله إلا الكفار ثم تحدث الرجل عن كون سبب سواد الناس هو المنطقة التى يعيشون فيها فقال :
"قالوا: ولنا بعد معرفةٌ بالتفلسف والنظر، ونحن أثقف الناس ولنا في الأسرار حجة ونحن نقول: إن الله تعالى لم يجعلنا سوداً تشويهاً بخلقنا، ولكن البلد فعل ذلك بنا والحجة في ذلك أن في العرب قبائل سوداً كبني سليم بن منصور وكلُّ من نزل الحَّرة من غير بني سليمٍ كلهم سود وإنهم ليتخذون المماليك للرعي والسقاء، والمهنة والخدمة، من الأشبانيِّين ومن الروم نسائهم، فما يتوالدون ثلاثة أبطن حتى تنقلهم الحرّة إلى ألوان بني سليم ولقد بلغ من أمر تلك الحرة أن ظباءها ونعمها، وهوامها وذبابه، وثعالبها وشاءها وحميرها، وخيلها، وطيرها كلها سودٌ والسواد والبياض إنما من قبل خلقة البلدة، وما طبع الله عليه الماء والتربة، ومن قبل قرب الشمس وبعدها، وشدة حرها ولينها وليس ذلك من قبل مسخٍ ولا عقوبة، ولا تشويه ولا تقصير على أن بلاد بني سليم تجري مجرى بلاد الترك ومن رأى إبلهم ودوابهم وكل شيءٍ لهم تركيٍّ رآه شيئاً واحداً وكل شيءٍ لهم تركيُّ المنظر وربما رأى الغزاة دون العواصم أخلاط غنم الروم فلا يخفى عليهم غنم الروم من غنم الشام، للرُّوميَّة التي يرونها فيها وقد نرى الناس أبناء الأعراب والأعرابيات الذين وقعوا إلى خراسان فلا نشك أنهم علوج القرى وهذا موجودٌ في كل شيء وقد نرى جراد البقل والرِّيحان وديدانهما خضراً، ونرى قمل رأس الشاب سوداً، ونراها إذا ابيض رأسه بيضاً، ونراها إذا خُضِبت حمراً فليس سوادنا، معشر الزنج، إلا كسواد بني سليم ومن عددنا عليكم من قبائل العرب في صدر هذا الكلام وما إفراط سواد من اسودَّ من الناس إلا كإفراط بياض من ابيض من الناس وكذلك السمرة المتولدة من بينهما، وكذلك الزِّيّ والهيئات، وكذلك الصناعات، وكذلك المطاعم والشهوات"
وهذا ما يسمونه نظرية ألوان البشر تعود إلى المناخ الذى يعيشون فيه وهو كلام ليس مقبولا تماما لأن اصل البشر كان واحدا وله لون واحد ومع هذا خرجت منه كل الألوان فى أبنائه
ثم عاد فذكر اشعارا ذما ومدحا فى السودان فقال :
" وقد ذكر الشاعر، حين مدح أسيلم بن الأحنف الأسديَّ، سواد اليمانية فقال:
أسيلم ذاكم لا خفا بمكانه لعين تداحى أو لأذنٍ تسمَّع
من النَّفر الشُّمِّ الذين إذا انتموا وهاب الرجال حلقة الباب قعقعوا
جلاً الأذفر الأحوى من المسك فرقه وطيب الدِّهان رأسه وهو أنزع
إذا النَّفر السود اليمانون حاولوا له حوك برديه أرقوا وأوسعوا
وقد عاب بعض البيضان عبد بني جعدة بلونه، فقال:
قد عاب لوني أقوامٌ فقلت لهم ما عاب لوني إلا مفرط الحمق
إن كان لوني فيه دعجةٌ كلفٌ حزن الإهاب فإني أبيض الخلقأرضي الصديق وأحمي الظعن معترضاً صدر القناة وأكنى كنه السَّرق
وكانت امرأة عمرو بن شأسٍ تجفو عرار بن عمرو، وكان ابن سوداء، فقال عمرو بن شأسٍ في ذلك، وفي صفة أبناء الحبشيات والزنجيات:
ألم يأتيها أني صحوت وأنني تخشعت حتى ما أعارم من عرم
وأطرق إطراق الشُّجاع، ولو يرى مساغاً لنابيه الشجاع لقد أزم
أرادت عراراً بالهون ومن يرد عراراً لعمري بالهوان فقد ظلم
وإن عراراً إن يكن غير واضحٍ فإني أحب الجون ذا المنكب العمم
فإن كنت منِّي أو تحبين شيمتي فكوني له كالسمن ربت له الأدم وإلا فبيني مثل ما بان راكبٌ تزود خمساً ليس في سيره أتم"
ثم تحدث عن الهند وهو كلام لا علاقة له بالزنج والسواد فقال :
"وأما الهند فوجدناهم يقدمون في النجوم والحساب، ولهم الخطُّ الهندي خاصة، ويقدمون في الطبِّ، ولهم أسرار الطب وعلاج فاحش الأدواء خاصة ولهم خرط التماثيل ونحت الصور بالأصباغ تتخذ في المحاريب وأشباه ذلك ولهم الشطرنج، وهي أشرف لعبةٍ وأكثرها تدبيراً وفطنة ولهم السيوف القلعية، وهم ألعب الناس بها وأحذقهم ضرباً بها ولهم الرُّقى النافذة في السموم وفي الأوجاع ولهم غناءٌ معجب ولهم الكنكلة، وهي وترٌ واحدٌ يمد على قرعةٍ فيقوم مقام أوتاد العود والصنج ولهم ضروب الرقص والخفة، ولهم الثقافة عند الثقاف خاصة، ولهم مغرفة المناصفة، ولهم السحر والتدخين والدمازكية ولهم خطُّ جامعٌ لحروف اللغات، وخطوطٌ أيضاً كثيرة، ولهم شعرٌ كثير وخطب طوال، وطبٌّ في الفلسفة والأدب وعنهم أُخذ كتاب كليلة ودمنة ولهم رأيٌ ونجدةٌ، وليس لأحدٍ من أهل الصبر ما لهم ولهم من الزِّيّ الحسن والأخلاق المحمودة مثل الأخلَّة والقرن والسواك، والاحتباء، والفرق والخضاب وفيهم جمال وملحٌ واعتدال وطيب عرق وإلى نسائهم يضرب الأمثال ومن عندهم جاء الملوك بالعود الهندي الذي لا يعدله عود ومن عندهم خرج علم الفكر، وما إذا تكلم به على السم لم يضر وأصل حساب النجوم من عندهم أخذه الناس خاصةً وآدم عليه السلام إنما هبط من الجنة فصار ببلادهم"
ثم ذكر كلاما عن السند معتبرا إياهم والهنود من جملة السودان فقال :
"قالوا: ومن مفاخر الزنج حسن الخلق، وجودة الصوت وإنك لتجد ذلك في القيان إذا كنَّ من بنات السنْد وخصلةٌ أخرى: أنه لا يوجد في العبيد أطبخ من السندي، هو أطبع على طيب الطبخ كله ومن مفاخرهم أن الصيارفة لا يولون أكيستهم وبيوت صروفهم إلا السند وأولاد السند؛ لأنهم أنفذ في أمور الصرف، وأحفظ وآمن ولا يكاد أحدٌ أن يجد صاحب كيس صيرفيٍّ ومفاتيحه ابن روميٍّ ولا ابن خراساني ولقد بلغ من تبرك التجار بهم أن صيارفة البصرة وبنادرة البربهارات، لما رأوا ما كسب فرجٌ أبو روحٍ السندي لمولاه من المال والأرضين اشترى كل امرئٍ منهم غلاماً سندياً، طمعاً فيما كسب أبو روحٍ لمولاه
قال: وكان عبد الملك بن مروان يقول: " الأدغم سيد أهل المشرق " يعني عبيد الله بن أبي بكرة وكان أشد السودان سواداً وإياه يعني عبد الله بن حازم حيث يقول: حبشيٌّ حبشته حبشة"
وهذا الكتاب يبدو أن من كتبه جمع بعضه من مصادر شتى وبخياله قول السودان والبيضان ما لم يقولوا وفى نهايته قال الجاحظ الذى يبدو أن لم يؤلف الكتاب :
"فهذا جملة ما حضرنا من مفاخر السودان وقد قلنا قبل هذا في مفاخر قحطان، وسنقول في فخر عدنان على قحطان في كثير مما قالوا إن شاء الله"

الأربعاء، 27 مايو 2020

نقد رسالة فخر السودان على البيضان

نقد رسالة فخر السودان على البيضان
الرسالة كما هو معروف تاريخيا تأليف أبي عثمان عمرو بن الجاحظ وسبب تأليفها هو طلب واحد من الناس أن يذكر له مفاخر السودان وهو قوله" تولاك الله وحفظك، وأسعدك بطاعته، وجعلك من الفائزين برحمته
ذكرت - أعاذك الله من الغشِّ - أنك قرأت كتابي في محاجة الصرحاء للهجناء، وردِّ الهجناء، وجواب أخوال الهجناء، وأني لم أذكر فيه شيئاً من مفاخر السودان فاعلم حفظك الله أني إنما أخرت ذلك متعمداً وذكرت أنك أحببت أن أكتب لك مفاخر السودان، فقد كتبت لك ما حضرني من مفاخرهم"
وقد بدأ الكتاب بأقوال لا علاقة لها بالموضوع وهى :
"قال الأصمعى: قال الفرز عبد فزارة وكانت في أذنه خُربة: إن الوئام يتترع في جميع الطَّمْش: لا يقرب العنز الضَّأن ما وجدت الماعز، وتنفر الشاة من المخلب ولا تأنس بالخف
وأنشد أبو زيد النحوي: " لولا الوئام هلك الإنسان "
فهنا الحديث عن الوئام وهو السلام بين الناس ثم ذكر حكايات عن النساء السود فقال ناقلا التالى:
"وقال شدادٌ الحارثيُّ - وكان خطيباً عالماً -: قلت لأمةٍ سوداء بالبادية: لمن أنت يا سوداء؟ قالت: لسيد الحضر يا أصلع قال: قلت أو لستِ سوداء؟ قالت: أو لست أصلع؟ قلت: ما أغضبك من الحق قالت: الحق أغضبك، لا تشتُمْ حتى تُرهب، ولأن تتركه أمثل وقال شداد: لقد كلَّمتها وأنا أظنُّ أنِّي أفي بأهل نجد، وما نزعت عنِّي إلا وأنا عند نفسي لا أفي بأمَتِي
وقال الأصمعي: قال عيسى بن عمر: قال ذو الرُّمَّة: قاتل الله أمةَ آل فلانٍ السوداء، ما كان أفصحها وأبلغها! سألتها كيف كان المطر عندكم؟ قالت: غٍثْنا ما شئنا "
وبعد هذا ذكر مشاهير السود كما يزعمون فقال :
"مناقب السودان:
أن لقمان الحكيم منهم، وهو الذي يقول: ثلاثة لا تعرفهم إلا عند ثلاثة: الحليم عند الغضب، والشجاع عند الخوف، والأخ عند حاجتك وقال لابنه: إذا أردت أن تخالط رجلاً فأغضِبْه ذلك، فإنْ، أنصفك وإلا فاحذره ولم يرووا ذلك عنه إلا وله أشياء كثيرة وأكثر من هذا مَدْحُ الله إياه وتسميته الحكيم، وما أوصى به ابنه"
ولقمان (ص) نبى من الأنبياء لم يذكر شىء فى الوحى عن بياضه أو سواده
ثم ذكر :
"ومنهم: سعيد بن جبير، قتله الحجَّاج قبل موته بستة أشهر وهو ابن تسعٍ وأربعين سنة، ومات الحجّاج وهو ابن ثلاث وخمسين سنة وكان سعيدٌ أورع الخَلْق وأتقاهم، وكان أعظم أصحاب ابن عباس وأصحاب الحديث يطعنون في الذي يجيء من قبل أصحاب ابن عباس حتى يجيء من سعيد بن جبير وأبوه مولى بني أسد، وهو مولى بني أميّة، وقُتِل يوم قُتِل والناس يقولون: كلُّنا محتاجٌ إليه"
والحجاج أساسا شخصية وهمية مثل دولة بنى أمية كلها ودولة بنى العباس ومن ثم فسعيد بن جبير هو الأخر قد لا يكون له وجود غير الوجود فى الكتب ووصف الجاحظ له "وكان سعيدٌ أورع الخَلْق وأتقاهم" كلام وهمى فلا هو عاشره ولا رآه ولا هو يعلم شيئا عنه ولذا قال تعالى " هو أعلم بمن اتقى"
وهذا الوصف يعنى كونه أفضل من النبى (ص) واخوته الأنبياء(ص) ولو قال من أورع الخلق وأتقاهم لكان من المقبول ولكنه جعله أورع الخلق وأتقاهم غير مقبول ثم قال :
"ومنهم: بلالٌ الحبشيُّ ، الذي يقول فيه عمر بن الخطاب : إن أبا بكرٍ سيدنا وأعتق سيدنا، وهو ثلث الإسلام
ومنهم: مهجع، وهو أول قتيلٍ قُتِل بين الصِّفَّين في سبيل الله
ومنهم: المقداد، وهو أول من عدا به فرسه في سبيل الله"
وهذا الكلام عن الأولية لا ذكر له فى الوحى فمثلا كون بلال ثالث من أسلم يتناقض مع رواية عن كون سعد بن أبى وقاص ثالث من أسلم حيث روى البخارى بإسناده إلى سعيد بن المسيب قال: سمعت سعد بن أبي وقاص يقول: "ما أسلم أحد إلا في اليوم الذي أسلمت فيه ولقد مكثت سبعة أيام وإني لثلث الإسلام"
ثم قال :
"ومنهم وحشيٌّ قاتل مُسيلمة الكذاب وكان يقول: قتلت خير الناس - يعني حمزة بن عبد المطلب - وقتلت شر الناس - يعني مُسيلمة الكذاب –"
وبالقطع هذا الكلام لا يمكن أن يصدر من مسلم حيث يفضل مسلم على النبى(ص) بقوله" قتلت خير الناس - يعني حمزة"
ثم قال "ومنهم: مكحولٌ الفقيه ومنهم: الحَيقُطان الشاعر، الذي كان يَفضُل في رأيه وعقله وهمَّته وهو الذي يقول في الإخوان: لا تعرفُ الأخ حتَّى ترافقه في الحضر، وتزامله في السفر ومنهم: جُليبِيب الذي تحدثت الرواة أن رسول الله (ص) خرج في غزاةٍ فقال لأصحابه: هل تفقدون من أحد؟ قالوا: نفقد فلاناً وفلاناً ثم خرج فقال: هل تفقدون من أحد؟ قالوا: نفقد فلاناً وفلاناً ثم خرج فقال: هل تفقدون من أحد؟ قالوا في الثالثة: لا قال: لكني أفقد جُليبيباً، اطلبوه فطلبوه بين سبعةٍ قد قتلهم ثم قُتِل فقال النبي (ص): " قتل سبعةً ثم قتلوه هذا منِّي وأنا منه " قال: ثم حمله على ساعديه حتى حفروا له، ما له سريرٌ غير ساعدَيْ رسول الله (ص) قال: ولم يذكروا غُسْلاً"
والكلام عن جليبيب هنا كلام استغفال للناس فالعبارة " قتل سبعةً ثم قتلوه هذا منِّي وأنا منه" فالرجل قتل السبعة والسبعة بعد أن قتلهم قتلوه ثم كيف يكون جليبيب من النبى(ص) والنبى(ص) من جليبيب فإما أن يكون هذا ابن ذاك أو العكس ولو قال النبى (ص) كلاما لقال هذا من المسلمين أو من شهداء المسلمين
ثم قال "ومنهم: فرجٌ الحجَّام وكان من أهل العدالة، والمقدَّمين في الشَّهادة أعتقه جعفر بن سليمان؛ وذلك أنه خدمه دهراً يصلح شاربه ولحيته ويهيئه، فلم يره أخطأ في قولٍ ولا عمل، فقال: والله لأمتحنَّنه، فإن كان ما أرى منه عن تدبيرٍ وقصدٍ لأعتقنه ولأزوَّجتَّه ولأغنينَّه وإن كان على غير ذلك عرفتُ الصنع فيه فقال له ذات يوم وهو يحجمه: يا غلامُ، أتحتجم؟ قال: نعم قال: ومتى؟ قال: عند الحاجة قال: وتعرفُ ذلك؟ قال: أعرفُ أكثره وربما غلِطت قال: فأيَّ شيء تأكل؟ قال: أمَّا الشتاء فداك براه خائرة حلوة وأما في الصيف فسكباجةٌ حامضة عذبة فبلغ به جعفر بن سليمان ما قال وهو الذي يقول فيه أبو فرعون:
خلُّوا الطَّريق زوجتي أمامي أنا حميمُ فرجِ الحجّام
قال: وبلغ من عدالته ونبله في نفسه وتوقِّيه وورعه، أن مواليه من ولد جعفرٍ وكبار أهل المربد، كانوا لا يطعمون أن يُشْهده إلا على أمرٍ صحيح لا اختلاف فيه"
الخبل فى الحكاية هو كون فرج من المقدمين فى الشهادة وهى عبارة تعنى فى عصرنا انه رجل من شهود الزور يتقدم للشهادة فى القضايا دون ان يرى شيئا فلا يوجد أحد مقدم فى الشهادة لأنه لا يرى كل القضايا ولا يعيش مع كل الناس ومن ثم فالشهادة عندما تقع لأحد فى عمره مرة اثنين ثلاثة وليس فى قضايا بالعشرات
ثم تحدث عن الحيقطان فقال :
"وأما الحَيقُطان فقال قصيدةً تحتجُّ بها اليمانية على قُريشٍ ومضر، ويحتجُّ بها العجم والحبشُ على العرب، وكان جريرٌ رآه يوم عيدٍ في قميص أبيض وهو أسود، فقال:
كأنه لما بدا للناس أير حمارٍ لُفَّ في قرطاس
فلما سمع بذلك الحيقطان وكان باليمامة، دخل إلى منزله فقال هذا الشعر:
لئن كنتُ جعد الرَّأسِ والجلدُ فاحمٌ فإنَّي لَسَبْطُ الكفِّ والعرضُ أزهر
وإنَّ سواد اللَّون ليس بضائِري إذا كنتُ يوم الروع بالسَّيف أخطرُ
فإن كنت تبغي الفخر في غير كنهه فرهُط النَّجاشي منك في الناس أفخر
تأبَّى الجُلَنْدَي وابن كسرى وحارثٌ وهوذة والقبطي والشيخُ قيصرُ
وفاز بها دون الملوك سعادةً فدام له الملك المنيع الموفّرُ
ولقمان منهم وابنه وابنُ أمِّه وأبرهةُ الملك الذي ليس يُنكَرُ
غزاكم أبو يكسوم في أمِّ داركم وأنتم كقبْصِ الرمل أو هو أكثر
وأنتم كطير الماء لما هوى لها ببلقعةٍ، حُجن المخالبِ أكدرُ
فلو كان غير الله رامَ دفاعه علمت وذو التَّجريب بالناس أخبرُ
وما الفجرُ إلا أن تبيتوا إزاءه وأنتم قريبٌ ناركم تتسعَّرُ
ويدلُف منكم قائد ذو حفيظة نُكافحه طوراً وطورا يدبَّرُ
فأما التي قُلتم فتلكم نُبوَّة وليس بكم صُون الحرام المستَّرُ
وقلتم لقاحٌ لا نؤدي إتاوة فإعطاء أريانٍ من الفَرِّ أيسر
ولو كان فيها رغبةٌ لمتوَّجٍ إذاً لأتتها بالمقاول حميرُ
وليس بها مشتىً ولا متصيَّف ولا كجُؤاثا ماؤها يتفجَّر
ولا مرتعٌ للعين أو متقنَّص ولكن تجراً، والتجارة تُحقَر
ألست كُليبيّا وأمك نعجةً لكم في سمان الضّان عارٌ ومفخر"
هذه القصيدة وقبلها بيت جرير هى من ضمن الكفر والفخر بالكفار والذم بالفواحش مع وجود فخر فيها بالمسلمين وقد قام الجاحظ بشرحها شرحا مطولا وأدخلنا فى امور بعيدة عن موضوع الكتاب كقوله:

"أما قوله:
تأبى الجلندى وابن كسرى وحارثٌ وهوذة والقبطى والشيخ قيصرُ
فإنه يقول: كتب النبيُّ (ص) إلى بني الجُلندي فلم يُؤمنوا"
فابنا الجلندى تاريخيا أسلموا على يدا عمرو بن العاص وليس كما يقول الجاحظ أن الوحيد الذى أسلم هو النجاشى فى قوله:
"ولكنَّ النَّجاشيَّ أسلم قبل الفتح، فدام له ملكه ونزع الله من هؤلاء النِّعمة "
ثم ذكر أبو يكسوم وهو أبراهة فى التاريخ فقال :
"وأما قوله:غزاكم أبو يكسوم في أمِّ داركم وأنتم كقِبْص الرَّمل أو هو أكثر فإنه يعنى صاحب الفيل حين أتى ليهدم الكعبة يقول: كنتم في عدد الرَّمل، فلم فررتمْ منه ولم يلقه أحدٌ منكم حتَّى أفضى إلى مكة، ومكة أمُّ القرى، ودار العرب، هي جزيرة العرب ومكة قريةٌ من قراها، ولكن لما كانت أقدمها قدما، وأعظمها خطراً، جُعلِت لها أمّاً ولذلك قيل لفتح مكة: فتح الفتوح وعلى مثل ذلك سميت فاتحة الكتاب: أمَّ الكتاب والعرب قد تجعل الشىء أمَّ ما لم يَلِدْ من ذلك قولهم: ضربه على أمِّ رأسه، وكذلك أمّ الهاوية والضَّيف يسمى ربّة منزله أمَّ مثواي
وقال أعرابيٌّ وقد أصابته براغيثُ عند امرأةٍ كان نزل بها:
يا أمَّ مثواى عدِمت وجهك أنقذنى ربُّ العُلا من مصرك
ولذع بُرغوثٍ أراه مُهلكى أبيت ليلي دائب التحكّك
تحكّك الأجراب عند المبرك"
ونلاحظ فى الفقرة أن الرجل ذكر أصل ومعنى كلمة أم وهو كلام ليس له علاقة بموضوع الكتاب ونجد الحيقطان يفخر بجواثا على مكة ويحقر أهل مكة بقوله:
"وليس بها مَشْتىً ولا متصيَّف ولا كجُؤاثا ماؤها يتفجَّرُ
قال: ليس في الغلبة على مكة رغبة، ولولا ذلك لغزاها أهل اليمن وغيرهم وليس بها مشتىً ولا متصيَّف؛ لأنهم يتبرَّدون بالطائف ويتدفَّوْن بجدَّة وجؤاثا: عينٌ بالبحرين وليس بمكة شيءٌ يدانى ذلك وقال:
ولا مرتعٌ للعين أو متقنَّص ولكنَّ تجراً والتجارة تُحقرُ
يقول: ليس بها متنزَّهات، وصيدها حرام، وإنما بها تُجَّار والتُجَّار يُحقرون يقول: هم عند الناس في حدِّ الضعف .."
ثم قال "وأما قوله:
ألست كليبيّاً وأمُّك نعجةٌ لكم في سمان الضَّأن عارٌ ومفخرُ
فإن بنى كُليبٍ يُرمون بإتيان الضَّأن، وكذلك بنو الأعرج، وسُليم وأشجع تُرمى بإتيان المَعْز"
فهنا يعير القوم بكونهم يزنون بالحيوانات وذكر أشعارا كثيرة فى الزنى بالحيوان حذفناها لكونها لا علاقة لها بموضوع الكتاب
ثم قال :
"ومن مفاخر السُّودان والزِّنج والحبش مع ما ذكرنا من قصيدة الحيقطان، أنَّ جرير بن الخطفى لما هجا بنى تغلب وقال:
لا تطلُبَنَّ خؤولةً في تغلبٍ فالزِّنج أكرم منهم أخوالا
غضب سنيح بن رباح شار، فهجا جريراً، وفخر عليه بالزِّنج فقال:
ما بال كلبٍ من كليبٍ سبَّنا أن لم يوازن حاجباً وعقالا
إن امأً جعل المراغة وابنها مثل الفرزدق جائر قد فالا
والزِّنج لو لاقيتهم في صفِّهم لاقيت ثمَّ جحاجحاً أبطالا
فسل لبن عمرو حين رام رماحهم أرأى رماح الزِّنج ثمَّ طوالا
فجعوا زياداً بابنه وتنازلوا لكما دُعُوا لنزال ثمَّ نزالا
ومربِّطين خيولهم بفنائهم وربطت حولك شيِّها وسخالا
كان ابن ندبة فيكم من نجلنا وخفافٌ المحمَّل الأثقالا
وابنا زُبيبة: عنترٌ وهراسةٌ ما إن نرى فيكم لهم أمثالا
سل ابن جيفر حين رام بلادنا فرأى بغزوتهم عليه خبالا
وسليكٌ اللَّيث الهزبر إذا عدا والقرمُ عبّاسٌ علوك فعالا
هذا ابن خازمٍ ابن عجلى منهم غلب القبائل نجدةً ونوالا
أبناء كلِّ نجيبةٍ لنجيبةٍ أسدٌ تربِّب عندها الإشبالا
فلنحن أنجب من كليب خؤولةً ولأنت ألأم منهم أخوالا
وبنو الحباب مطاعن ومطاعم عند الشِّتاء إذا تهبُّ شمالا"
هذه القصيدة هى الأخرى من قصائد الكفر لفخرها بكثير من الكفار فى عهد الجاهلية وقد قام الجاحظ ببيان الشخصيات المذكورة فيها
أما ابن عمرٍو الذي ذكر، فهو حفص بن زياد بن عمرٍو العتكى، كان خليفة أبيه على شرطة الحجاج، فغلب رباح شار الزِّنجى على الفرات، فتوجَّه إليه حفص بن زيادٍ فقتله رباحٌ وقتل أصحابه واستباح عسكره
وأما ابن جيفر فهو النعمان بن جيفر بن عباد بن جيفر بن الجلندى كان غزا بلاد الزِّنج فقتلوه وغنموا عسكره
ثم ذكر أبناء الزِّنجيات حين نزعوا إلى الزِّنج في البسالة والأنفة فذكر خفاف بن ندبة، وعباس بن مرداس، وابنى شدادٍ: عنترة الفوارس وأخاه هراسة، وسليك بن السُّلكة فهؤلاء أسد الرجال، وأشدُّهم قلوباً وأشجعهم بأساً، وبهم يضرب المثل
ومنهم: عبد الله بن خازمٍ السُّلمى، وبنو الحباب: عمير بن الحباب وإخواته
وكان أيضاً منهم: الجحَّاف بن حكيم
وهم أيضاً يفخرون برباحٍ أخى بلال وحاله وصلاحه
ويفخرون بعامر بن فهيرة، بدرى استشهد يوم بئر معونة، فرآه الناس قد رفعه الله بين السماء والأرض، فليس له في الأرض قبر ومنهم: آل ياسر
قالوا: ومنَّا الغداف صاحب عبيد الله بن الحرّ لم يكن في الأرض أشد منه؛ كان يقطع على القافلة وحده بما فيها من الحماة والخفراء
وكعبويه صاحب المغيرة بن الفزْر، كان مثلاً في الشجاعة
ويقولون: ومنَّا مرْبح الأشرم، غلام أبى بحرٍ القائد، الذي كان قدم من الشام أيام قتيبة بن مسلم، وكان لا يرام لقاؤه، وأمره مشهور
قالوا: ومنا المغلول وبنوه، وهم من الخول، ليس في الأرض أعرف ولا أثقف ولا أعلم بالبادية منهم
قالوا: ومنَّا أفلح، الذي قطع على القوافل بخراسان وحده عشرين سنة قالوا: وإنما قتله مالك بن الرَّيب، لأنه وطئه في جوف الليل وهو سكران خائر والشاهد على قولنا قول ابنه:
أمالك لولا السُّكر أيقنت أنَّه أخو الورد أو يُربى على الأسد الورد
قالوا: ونحن قد ملكنا بلاد العرب من لدن الحبشة إلى مكة،وجرت أحكامنا في ذلك أجمع وهزمْنا ذا نواسٍ، وقتلنا أقيال حمير وأنتم لم تملكوا بلادنا وقد قال شاعركم:
وخرب غُمداناً وهدَّم سقفه رياطٌ بأجنادٍ وصولته هصر
أطافت به الأحبوش ليلاً فقوضوا بناً شدَّه الأقيال في سالف الدَّهر
بجمعٍ من اليكسوم سودٍ كأنهم أسودُ الشرى اجتابت جلوداً من النُّمْر
قالوا: ومنا كباجلا، لم يصعد نهر سليمان ولا قاتل في المخارجات أحدٌ قطُّ يشبهه الوا: ومنا الأربعون الذين خرجوا بالفرات أيام سوَّار بن عبد الله القاضي، فأجلوا أهل الفرات عن منازلهم، وقتلوا من أهل الأبُلَّة مقتلةً عظيمة
قالوا: ومنَّا الذي ضرب عنق عيسى بن جعفر بعُمان، بمنجلٍ بحرانيّ، بعد أن لم يجسر عليه أحد"
وما سبق من ذكر أسماء الأشخاص الذين ذكروا فى القصيدة وبعض حكاياتهم كلام لا فائدة منها والتعليق فقط على حكاية عامر بن فهيرة، البدرى الذى استشهد يوم بئر معونة، فرآه الناس قد رفعه الله بين السماء والأرض، فليس له في الأرض قبر وهى حكاية لا أصل لها تتعارض مع منع الله الآيات وهى المعجزات فى عهد النبى(ص) بقوله " وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون" كما أن كل بنى آدم له قبر أى مستقر سواء عرف القبر او لم يعرف لقوله تعالى " فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون "
كما ان بعض الحكايات حكايات خيالية كالرجل الذى يهجم على القافلة برجالها وحراسها وحدهم فيقتل الكل وبنهب البضاعة وحده
ثم ذكر الرجل صفات السودان وهم الزنج فقال :
"قالوا: والناس مجمعون على أنه ليس في الأرض أمّةٌ السخاء فيها أعمُّ، وعليها أغلب من الزِّنج وهاتان الخلَّتان لم توجدا قطُّ إلا في كريم وهم أطبع الخلق على الرقص الموقَّع الموزون، والضرب بالطبل على الإيقاع الموزون، من غير تأديبٍ ولا تعليم وليس في الأرض أحسن حلوقاً منهم وليس في الأرض لغةٌ أخفُّ على اللسان من لغتهم، ولا في الأرض قومٌ أذْربُ ألسنةً، ولا أقلُّ تمطيطاً منهم وليس في الأرض قومٌ إلا وأنت تصيب فيهم الأرتَّ والفأفاء والعيى، ومن في لسانه حبسة، غيرهم والرجل منهم يخطب عند الملك بالزِّنج من لدن طلوع الشمس إلى غروبها، فلا يستعين بالتفاتةٍ ولا بسكتةٍ حتى يفرغ من كلامه وليس في الأرض أمةٌ في شدة الأبدان وقوة الأسر أعمُّ منهم فيهما وإن الرجل ليرفع الحجر الثقيل الذي تعجز عنه الجماعة من الأعراب وغيرهم وهم شجعاءٌ أشداء الأبدان أسخياء وهذه هي خصال الشرف والزنجي مع حسن الخلق وقلة الأذى، لا تراه أبداً إلا طيب النفس، ضحوك السّنّ، حسن الظّنّ وهذا هو الشرف
وقد قال ناسٌ: إنهم صاروا أسخياء لضعف عقولهم، ولقصر رويَّاتهم، ولجهلهم بالعواقب فقلنا لهم: بئس ما أثنيتم على السخاء والأثرة، وينبغى في هذا القياس أن يكون أوفر الناس عقلاً وأكثر الناس علماً أبخل الناس بخلاً وأقلهم خيرا وقد رأينا الصَّقالبة أبخل من الرُّوم، والروم أبعد رويةً وأشدُّ عقولا وعلى قياس قولكم أن قد كان ينبغى أن تكون الصَّقالبة أسخى أنفساً وأسمح أكُفّاً منهم وقد رأينا النساء أضعف من الرجال عُقولاً، والصِّبيان أضعف عقولا منهم، وهم أبخل من النساء، والنِّساء أضعف عقولاً من الرجال ولو كان العقل كلَّما أشدَّ كان صاحبه أبخل، كان ينبغي أن يكون الصبيُّ أكرم الناس خصالاً ولا نعلم في الأرض شرّاً من صبيّ: هو أكذب الناس وأنم الناس، وأشره الناس وأبخل الناس، وأقل الناس خيراً وأقسى الناس قسوة وإنما يخرج الصبيُّ من هذه الخلال أولاً فأولاً، على قدر ما يزداد من العقل فيزداد من الأفعال الجميلة فكيف صار قلّةُ العقل هو سبب سخاء الزِّنج، وقد أقررتم لهم بالسِّخاء ثم ادَّعيتم ما لا يُعرف وقد وقفناكم على إدحاض حجتكم في ذلك بالقياس الصحيح وهذا القول يوجب أن يكون الجبان أعقل من الشُّجاع، والغادر أعقل من الوفى وينبغى أن يكون الجزوع أعقل من الصَّبور فهذا ما لا حجة فيه لكم، بل ذلك هبةٌ في الناس منالله والعقل هبةٌ، وحسن الخلق هبة، والسَّخاء والشجاعة كذلك وقد قالت الزِّنج للعرب: من جهلكم أنَّكم رأيتمونا لكم أكفاءً في الجاهلية في نسائكم، فلمَّا جاء عدل الإسلام رأيتم ذلك فاسداً، وما بنا الرغبة عنكم مع أن البادية منا ملأى ممن قد تزوَّج ورأس وساد، ومنع الذِّمار، وكنفكم من العدوّ قال: وقد ضربتم بنا الأمثال وعظَّمتم أمر ملوكنا، وقدَّمتموهم في كثيرٍ من المواضع على ملوككم ولو لم تروا الفضل لنا في ذلك عليكم لما فعلتم"
والرجل ومن رد عليهم يعتبرون جهلة بالإسلام فالناس يختلفون داخل اللون الواحد وداخل اللغة الواحدة وداخل الدين الواحد فى الأفعال والصفات فليست هناك أفعال نفسية سائدة فى لون أو صفات نفسية سائدة فى لون أو متكلمى لغة ما ولذا قال تعالى " إن سعيكم لشتى" وقال " ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم"
ثم ذكر اشعارا كلها فى الفخر المحرم فقال :
"وقال النَّمْر بن تولب:
أتى ملكه ما أتى تُبّعاً وأبرهة الملك الأعظما
فرفعه على ملوك قومه وقال لبيد بن ربيعة:
لو كان حيٌّ في الحياة مخلِّداً في الدهر أدركه أبو يكسوم
وهذا شيءٌ من وصف الفضل لم يوصف أحدٌ بمثله
قالوا: ومما قدَّمتم به ملوكنا على ملوككم قوله:
غلب الليالى خلف آل مُحرِّق وكما فعلن بتُبّع وبهرْقل
وغلبن أبرهة الذي ألفيته قد كان خُلِّد فوق غُرفة موْكل
....وأما قوله:
حمارة جمعت من كل محزوة جمع الشُّبيكة نون الزاحر اللَّجب
فإنه ذهب إلى ما تقوله الرواة أن حمير كانت حَمَّارة
وأما الشُّبيكة فأراد الشبكة"
ثم ذكر النجاشى فقال :
"وقال السودان: فهذا الفضل فينا، ولم يصلِّ النبي (ص) قط إلا على جنازةٍ أو قبر، إلا النجاشىّ فإنه صلّى عليه وهو بالمدينة وقبر النَّجاشيّ بالحبشة قالوا: والنجاشي هو كان زوَّج أمَّ حبيبة بنت أبي سفيان من النبي (ص)، ودعا خالد بن سعيدٍ فجعله وليَّها، وأصدق عن النبي (ص) أربعمائة دينار"
وهو كلام ليس مجالا للفخر فقد صلى النبى(ص) على المنافقين حتى نهاه الله فقال " فلا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره"
ثم ذكر ما قالته السودان فى الفخر على الغير وهو كلام لم يذكره السودان وإنما ألفه الجاحظ أو من ألف الكتاب فقال:
طقالوا: وثلاثة أشياء جاءتكم منْ قبلنا منها الغالية، وهي أطيب الطيب وأفخره وأكرمه ومنها النَّعْش وهو أستر للنساء وأصون للحرم ومنها المصحف، وهو أوقى لما فيه وأحصن له، وأبهى وأهيأ قالوا: ونحن أهول في الصدور وأملأ للعيون، كما أن المسوِّدة أهول في العيون وأملأ للصدور من المبيِّضة، وكما أن الليل أهول من النهار
قالوا: والسَّواد أبداً أهول وإن العرب لتصف الإبل فتقول: الصُّهب سرع، والحُمْر غزْر، والسُّود بهْي فهذا في الإبل
قالوا: ودهم الخيل أبهى وأقوى، والبقر السود أحسن وأبهى، وجلودها أثمن وأنفع وأبقى والحمر السُّود أثمن وأحسن وأقوى وسود الشَّاء أدسم ألباناً وأكثر زبداَ، والدبس أغزر من الحمر
وكل جبلٍ وكل حجرٍ إذا كان أسود كان أصلب صلابةً وأشد يبوسةً والأسد الأسود لا يقوم له شيء
وليس من التمر أحلى حلاوةً من الأسود، ولا أعم منفعةً ولا أبقى على الدهر والنخيل أقوى ما تكون إذا كانت سود الجذوع وجاء: " عليكم بالسواد الأعظم " وقال الأنصاري:
أدين وما ديني عليَّ بمغرمٍ ولكن على الشُّمِّ الطوال القراوح
على كل خوارٍ كأن جذوعها طلين بقارٍ أو بدمِّ ذبائح
قالوا: وأحسن الخضرة ما ضارع السَّواد قال الله جلّ وعلا: " ومن دونهما جنتان "، ثم قال لما وصفهما وشوَّق إليهما: " مدهمتان " قال ابن عباس: خضراوان من الرّيّ سوداوان
وليس في الأرض عودٌ أحسن خشباً ولا أغلى ثمناً، ولا أثقل وزناً ولا أسلم من القوادح، ولا أجدر أن ينشب فيه الخطُّ من الآبنوس ولقد بلغ من اكتنازه والتئامه وملوسته وشدة تداخله، أنه يرسب في الماءدون جميع العيدان والخشب ولقد غلب بذلك بعض الحجارة؛ إذ صار يرسب وذلك الحجر لا يرسب والإنسان أحسن ما يكون في العين ما دام أسود الشعر وكذلك شعورهم في الجنة وأكرم ما في الإنسان حدقتاه؛ وهما سوداوان وأكرم الأكحال الإثمد، وهو أسود ولذلك جاء أن الله يُدخل جميع المؤمنين الجنة جُرداً مُرداً مكحَّلين وأنفع ما في الإنسان له كبده التي بها تصلح معدته، وينهضم طعامه، وبصلاح ذلك قام بدنه؛ والكبد سوداء وأنفس ما في الإنسان وأعزُّه سويداء قلبه، وهي علقةٌ سوداء تكون في جوف فؤاده، تقوم في القلب مقام الدماغ من الرأس ومن أطيب ما في المرأة وأشهاه شفتاها للتقبيل، وأحسن ما يكونان إذا ضارعتا السَّواد"
وهو كلام لا مجال فيه للفخر فالخالق خلق البياض والسواد مثلا فى العين فالفضل للخالق وليس للسواد أو البياض وكذلك الكلام فى الجبال وغيرها وقد أكمله بالكلام الفارغ التالى: